كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكر أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي ثم الصالحي الدمشقي الحنبلي (708: 763 هجرية) في كتابه: "الآداب الشرعية والمنح المرعية"، خبرًا في الجزء الثاني صفحة 135، طبعة عالم الكتب، فصل في علم الإعراب لصاحب الحديث، عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس النحوي المصري المعروف بالنحاس المتوفى 338 هجرية عن أبي الحسن علي بن سليمان بن الفضل البغدادي العلامة النحوي المعروف بالأخفش الصغير المتوفى 315 هجرية.
قال أبو جعفر: "وَسَمِعْت عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَاءَنِي أَنَّ خَلَفًا الْبَزَّارَ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَحَلَّهُ تَرَكَ الْكِسَائِيَّ، وَهُوَ أُسْتَاذُهُ فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا، مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي تَصْنِيفِهِ كِتَابَ الْقِرَاءَاتِ".
قلتُ: والإمام النحاس لا نعلم أحدًا تكلَّم فيه بجرح، والأخفش الصغير وثَّقه الذهبي في (سير أعلام النبلاء 14/ 481).
ثم قال أبو جعفر: "ثُمَّ عَرَّفَنِي غَيْرُ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قَالَ لِي سَيِّدِي الرَّشِيدُ، فَتَرَكَهُ. وَقَالَ: إنَّ إنْسَانًا مِقْدَارُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ أَجْلِهَا هَذَا الْإِجْلَالَ، لَحَرِيٌّ أَنْ لَا يُؤْخَذَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ".
قلتُ: وهذه رواية عن مجهول فهي مردودة.
تنبيه: ذِكْر ابن مفلح للخبر من باب (الوجادة) حيث إنه وُلِد عام 708 هجرية، بينما توفي النحاس عام 338 هجرية، والأخفش الصغير عام 315 هجرية.
أما عن تحقيق الخبر دراية، فنقول -وبالله التوفيق-: إن كل مَن يعرف قدر الإمام أبو محمد خلف بن هشام البزار (خلف العاشر)، ومكانته، وحبه لشيخه الإمام أبو الحسن عَلِي بن حمزة (الكسائي)، يستبعد تمامًا أن يكون هذا الخبر صحيحًا لما يلي:
أولًا: ثبت باليقين أن خلف العاشر، خالف شيخه حمزة الذي يروي عنه، وخالف عاصمًا أيضًا، وهما كوفيان، في قراءات، ولم يوافق فيها (مِن التسعة) إلا الكسائي، وقد جعل لهما ابن الجزري رمزًا في كتابه "طيبة النشر في القراءات العشر"، فقال: "وَخَلَفٌ مَعَ اْلكِسَائِيِّ رَوَى".
وانظر أيضًا مصحف الكسائي وخلف العاشر مِن الشاطبية والدرة، تحقيق عَلِي بن عبد المُنعم.
ثانيًا: قال الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، فيستحيل عقلًا أن يجعل الله -عزَّ وجلَّ- رجلًا يطعن في عدالة شيخه بالباطل، أو رجلًا فيه صفة ذميمة (على فرض أن ما فعله الكسائي كذلك) مِن العشرة الذين اصطفاهم، وتواترت عنهم القراءة، وتلقتهم الأمة بالقبول، وأجمعت على أن كل حرفٍ نقلوه قرآن أنزله الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ووصل إلينا متواترًا.
ثالثًا: عن عمران بن الحصين -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. (متفق عليه).
والإمام الكسائي (119-189) وتلميذه الإمام خلف العاشر (150-229) مِن أئمة وصالحي القرون الخيرية بإجماع المسلمين.
رابعًا: إذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- كلهم عدول، وقد اختلفوا في العلم، وتقاتلوا باجتهادٍ منهم، وفيهم المُصيب وله أجران، والمخطئ وله أجر واحد، ولم يطعن أحدهم في عدالة صاحبه، وإذا كان أئمة الحديث كذلك، وأما أئمة الفقه الأربعة، فغالب ما نُسِبَ إلى أبي حنيفة مما انتُقِدَ عليه لم يصح عنه، وغالب ما وردَّ عن السلف في ذمه لم يثبت، والصحيح أن الذين خالفوه لم يقدحوا في عدالته أو يكفروه، وما روى في ذلك؛ إما لا يصح عنهم، أو لا يدل على القدح في العدالة، وقد أدَّى التعصب المذهبي المذموم إلى أن صُلِيت الفريضة الواحدة أربع جماعات! وتساءل البعض عن صحة زواج شافعي المذهب مِن الحنفية؛ لأنه يستثني في الإيمان!
أما الأئمة الكبار فهم بُرَآءُ مِن ذلك؛ لأنهم جميعًا دعوا إلى اتباع الدليل، ولم يقدح أحدهم في عدالة صاحبه بالباطل، فإذا ثبت أن الصحابة العدول -رضي الله عنهم-، وأئمة الحديث والفقه -رحمهم الله تعالى-، لم يطعن أحدهم في عدالة صاحبه؛ فهل يصح ذلك في أئمة القراءات العشر المتواترة الذين تلقتهم الأمة بالقبول؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
خامسًا: أما عن اتصال الإمام الكسائي بالخلفاء العباسيين، فقد وردَّ أن الخليفة المهدي أمر بإحضاره مِن الكوفة ليؤدب ابنه الرشيد (تاريخ بغداد 11 / 406).
وروى الأزهري سببًا آخر، وهو: أن المهدي طلب في شهر رمضان قارئًا يقرأ القرآن في دار أمير المؤمنين في التراويح، فذُكِر له الكسائي، فصلى بمَن في الدار، ثم أُقعِدَ مُؤدِبًا لابن أمير المؤمنين (تهذيب اللغة 1 / 16).
وكان الرشيد يُعظِم الكسائي لتأديبه إياه، ولما وَلِيَ الخلافة في سنة 182 هـ أمره بتفقد ولديه: الأمين والمأمون.
وكان إنسانًا متواضعًا يحبُ أن يَقضى حوائجه بنفسه، ولما قام يلبس نعله لحاجةٍ يريدها، فابتدرها الأمين والمأمون، فوضعاها بين يديه، فقبَّل رؤوسهما وأيديهما، ثم أقسم عليهما ألا يُعاودا (إرشاد الأريب 5 / 195). وكان الرشيد يتفقد حاله، ويسأل عنه (طبقات الزبيدي 139).
كما كان يُحكِّمه في المنازعات العلمية؛ ثقةً منه بعلمه (إرشاد الأريب 5 / 196).
وحَزِنَّ على وفاته حُزنًا كبيرًا، وقال بعد أن دفنه: "اليوم دفنتُ الفقه والعربية بالري" (السابق ص 49).
أما كلام السلف في ذم الدخول على السلاطين، فمحمول على الذي يمدحهم ويوافقهم على باطلهم، فإذا دخل عليهم بالتوجيه والإرشاد وتخفيف الشر؛ فهذا هو المطلوب، أما إذا دخل عليهم ليعينهم على الظلم ويصدقهم بالكذب؛ فهذا هو المذموم، نسأل الله العافية. (فتاوى الشيخ ابن باز، وانظر رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين للشوكاني).
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.