كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد فضحت أحداث حصار غزة حقيقة ما يسمونه: "بالشرعية الدولية"، وشعارات: "حقوق الإنسان"، و"الديمقراطية"، و"حرية الشعوب"، فضيحة لا تدع لعاقل شبهة في أن هذه الشعارات ليست إلا أصنام عجوة حين جاع الغرب الحاقد أكلها، بل هي عندهم أهون من ذلك.
فما ذنب شعب غزة المسلم إلا أنه اختار -حسب القواعد الديمقراطية- قيادة مسلمة فاستحق العقاب الجماعي والحصار الظالم الذي لا يتعرض له شعب على وجه الأرض بهذه الطريقة، والكل ساكت لا يحرك ساكنًا في حين يعلن البرلمان الأوربي تقاريره عن مخالفة دول في المنطقة لحقوق الإنسان، فهل اليهود فوق مستوى البشر فلا يُسألون؟ أم أن أهل غزة دون مستوى البشرية فلا "حقوق إنسان" لهم؟! وأظن أن جمعيات الرفق بالحيوان عندهم تعتبر ما يحدث منافيًا لحقوق الحيوان، لكن المشكلة أن من يتعرض للحصار هم من المسلمين، وهؤلاء القوم هم كما وصفهم الله -تعالى-: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة: 10).
فهل آن للمسلمين في كل مكان أن يعرفوا حقيقة عدوهم، وطبيعة الصراع بينهم وبين أعدائهم؛ ذلك أن كثيرًا من المسلمين إلى يومنا هذا ما زالوا يرون في الذئب راعيًا، وفي العدو حاميًا وحارسًا، وفي الولي عدوًّا محاربًا، فوقعت الفتنة والفساد الكبير الذي أخبر الله به إذا ضُيعت قضية الولاء والبراء، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (لأنفال: 73).
ورغم قسوة الحصار وآلامه التي تعتصر قلوب كل المسلمين في الأرض؛ إلا أنه -سبحانه وتعالى- جاعل فيه خيرًا كثيرًا، وجاعل من بعده فرجًا ومخرجًا.
فنقول لأهلنا في غزة:
أبشروا وأمِّلوا وارجوا كل خير، فيكفيكم شرفًا وعزة أن أسوتكم في مثل هذا الحصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حين حوصروا في شعب أبي طالب، وكذلك حين حاصرتهم الأحزاب (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 8)، ثم كانت عقب كلٍّ من الحِصارين أنواعٌ من الفرج والتمكين، والانطلاق لدعوة الحق؛ فأبشروا بنصر الله طالما صبرتم كما صبروا، واحتسبتم كما احتسبوا، وتوكلتم كما توكلوا، ونقول لهم: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف: 128).
ونقول لليهود ومَن والاهم ونصرهم، وأمدَّهم بما يقتلون به المسلمين، ويحصرونهم ويظلمونهم: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 227).
نقول لهم: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (هود: 121-122)، فستعلمون قريبًا عاقبة بغيكم وظلمكم، فلن تزيد شدة الحصار المسلمين في كل مكان -وليس في غزة فقط- إلا بغضًا لكم وكرهًا وعداوة، ولن تغير اختيارهم إلى مَن تودون أن يختاروهم لقيادتهم من الناصحين لعدوهم، الغاشين لأمتهم!
ولن تزيدكم نظرتكم المستعلية لأنفسكم فوق شعوب العالم -فتعطون أنفسكم حق سفك الدماء وانتهاك الحرمات، وهدم البيوت، واغتيال مَن شئتم، فإذا حاول أحد الدفاع عن نفسه كان إرهابيًّا يستحق السحق-؛ لن تزيدكم نظرتكم هذه عند الله إلا ذلًّا وصغارًا، فأسوتكم فيها فرعون وملؤه وأمثاله، وعاقبتكم عاقبته، ومصيركم مصير كل متكبر.
ونقول لحكام المسلمين:
اتقوا الله فيما في أيديكم من أمانات، واتقوا الله في أرواح المسلمين التي تُزهق كل ساعة جوعًا ومرضًا، وحبسًا، وفقرًا وضعفًا.
اتقوا الله واصنعوا شيئًا؛ فبأيديكم إمكانات لو اجتمعتم وأحسنتم استغلالها لأثَّرتم في العالم، وليست الاتفاقيات مع اليهود هي الاتفاقيات الوحيدة التي لا يجوز الخروج عليها، أليست هناك اتفاقيات وإعلانات حقوق الإنسان وحقوق المدنيين حال الحرب وغيرها؟! ثم أليس فوق هذه الاتفاقيات المواثيق الإلهية التي تحرم الإعانة على قتل مسلم أو ظلمه وانتهاك حرمته؟! (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).
ونقول للمسلمين في العالم كله ولعُبَّادهم وصلحائهم خاصة:
نصرتكم لإخوانكم في فلسطين، وفي كل بلاد المسلمين المحتلة إنما تكون بنصرتكم لدينكم وصدق التزامكم به، فلولا ذنوبنا لما أصابتنا المصائب، ولما تمكَّن العدو من بلادنا.
إن حال أمتنا اليوم هو ميراث تقصير هذا الجيل وأجيال قبله كثيرة، ابتعدوا عن الإيمان، ووقعوا في البدع والشرك والضلالات، والمعاصي والمنكرات، والافتراق والحسد والبغضاء والتنازع واتباع الشهوات؛ فضعفت الأمة ووهنت، فتمكن منها عدوها، وتحكم في مقدراتها، ولا سبيل إلى التخلص من ذلك إلا بتوبة صادقة، وعودة جادة إلى الالتزام الحقيقي ظاهرًا وباطنًا بهذا الدين أفرادًا وجماعات، حكامًا ومحكومين (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
فإنما يتحمل مآسي المسلمين من رفض العودة، وسوَّف التوبة، وأصر على الفسوق والعصيان والإباء والطغيان، وشغل نفسه وأمته بتوافه الأمور، وترك الجادة والسبيل الحق وغرق في بحار الشبهات والشهوات، وقد قضى الله -سبحانه- أنه يولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون، فإذا تركنا الظلم لم يسلط الله علينا الظالمين.
فيا عباد الله...
الدعاء الدعاء، فإن دعوة المظلوم لا تُرد، ونحن كلنا قد ظلمنا بما يفعل بإخواننا؛ فاجتهدوا في الدعاء خصوصًا في أوقات الإجابة، وأحوال الإجابة في الصلوات والأسحار، وبين الأذان والإقامة، وفي السجدات، والقنوت، وفي كل وقت؛ عسى الله أن يستجيب لدعوة صالحة، فيفرِّج بها عن أمتنا.
ونقول لعلماء المسلمين ودعاتهم:
انصحوا لأمتكم أئمتِها وعامتِها، وقولوا الحق وبيِّنوه في كل مكان ومجال، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وبيِّنوا للأمة مَن وليها ومَن عدوها، وما معنى موالاة هذا العدو وصورها، وأحيوا قضايا الأمة وقضايا الإيمان والإسلام والإحسان في القلوب والعقول، ولا تكتموا شيئًا من الدين، واحذروا من الركون إلى الذين ظلموا (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود: 113).
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على مَن بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين، لك رهابين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم آمين.