كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما التطبيع؟ وما أشكاله؟ وما أهدافه؟
يقصد بكلمة "طبَّع" في اللغة: جعل الأمور طبيعية.
فالتطبيع هو: عملية تبديل حالة ما هو شاذ، غير مألوف، أو غير طبيعي، حتى يصبح طبيعيًّا ومألوفا وعاديًا. وفي قضية الكيان الصهيوني؛ التطبيع هو: المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محل أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- بين الفلسطينيين أو العرب وإسرائيليين؛ أفرادًا كانوا أم مؤسسات، ولا يهدف إلى مقاومة أو فضح الاحتلال، وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني!
أشكال التطبيع:
- تطبيع ثقافي: وهو التبادل والتفاعل الثقافي الحي والمباشر، من خلال المؤتمرات والمحافل الثقافية والأدبية، ما يعني القبول بالطرف "الإسرائيلي" وبالكيان الذي يمثِّله.
- تطبيع اقتصادي: وهو دخول الكيان "الإسرائيلي" إلى الأسواق العربية وتسويق منتجاته بأسماء شركات وهمية.
- تطبيع إعلامي: يكون من خلال بثِّ مقابلات مع أشخاص من الكيان الصهيوني على قنوات عربية؛ إضافة إلى تغيير اسم فلسطين على الخريطة إلى "إسرائيل"، وذلك من أجل جعل فلسطين اسمًا منسيًا.
- تطبيع تجاري: هو تعامل التجار ورجال العمال في البلدان العربية مع شركات "إسرائيلية" من أجل إدخال منتجات هذه الشركات الى تلك البلدان، أو من خلال الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية كاستخراج النفط.
- تطبيع ديني (سياحي): يكون من خلال تنظيم المكاتب السياحية العربية لرحلات إلى القدس بذريعة زيارة الأماكن المقدسة والحج الديني!
- تطبيع فني: يتجسَّد ذلك من خلال زيارة شخصيات فنية أو ثقافية عربية لفلسطين المحتلة من أجل المشاركة في احتفالات أو مناسبات "تخص الكيان الصهيوني".
تطبيع دبلوماسي: يكون من خلال فتح سفارات أو ممثليات دبلوماسية "للكيان الصهيوني" في البلدان المطبَّع معها، وذلك لتقوية العلاقات فيما بينهم.
- تطبيع عسكري: هو تعاون بين "الكيان الصهيوني" والبلدان العربية عبر إنشاء "الكيان" لمعسكرات تدريب واستقبال الضباط في الجيوش العربية من أجل تدريبهم، وإجراء صفقات بيع أسلحة بين هذه الدول!
- تطبيع رياضي: يكون عبر استضافة الدول لفرق "إسرائيلية" مشاركة في مختلف المجالات الرياضية على أراضيها أو تمويل هذه الفِرَق.
- تطبيع جوي: يكون عبر تنظيم رحلات جوية بين الدولة المُطَبِّعة والكيان الصهيوني.
- تطبيع أمني: يشمل تبادل المعلومات الأمنية والاستخباراتية بين "الكيان الصهيوني" والدول العربية.
أهداف التطبيع إسرائيليًّا:
إن طبيعة التسوية التي تحاول أن يفرضها الكيان الصهيوني على الدول العربية تتجاوز إقامة علاقات بين الجانبين، أو حتى إقامة نوع من التعاون بين دول المنطقة، بل إنها محاولة إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية ومقاومتها، وتحويلها إلى كم من الأفراد في آلية اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة.
وفي التطبيق العملي يهدف التطبيع إلى:
1- إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، عبر تزييف الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت إسرائيل في الوطن العربي.
2- التوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية للكيان الصهيوني، بما في ذلك الوارد منها في بعض الكتب المقدسة "كالقرآن الكريم"، حيث كثَّفت إسرائيل جهودها العلمية لرصد وتسجيل، وتحليل المفاهيم الإسلامية المؤثرة في الصراع مع "الصهيونية" كأحد أبرز وجوه العناصر البنائية للذهنية العربية.
3- أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسس للمشروع الصهيوني الموجه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى داخل كل بلد عربي عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، ومحاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى..
4- تدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية، ولهذا فهو في نظر خبراء إسرائيل وباحثيها وقادتها العنصر الأهم والأكثر إلحاحًا في فرض الهيمنة "الصهيونية" على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائيًّا، تعبيرًا عن الهزيمة الحضارية والانهيار القومي والانتحار الجماعي.
أولًا: ثوابتنا في تلك القضية:
1- تقرير أحقية أهل الإيمان بأرض الإسلام (قضية فلسطين بين العقيدة والسياسة): قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، وقال -تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، ومِن هذا المنطلق خرج الصحابة -رضي الله عنهم- من المدينة المنورة فاتحين لمشارق الأرض ومغاربها، ولم يكونوا مالكين قبل ذلك لمصر والشام والعراق، وغيرها من البلاد، ولا لهم فيها حقوق تاريخية -كما يقولون!-، وإن شئتَ قلتَ: بل لهم كل الحقوق التاريخية؛ لأن الوراثة الحقيقية لآدم -عليه السلام- ثم لجميع الأنبياء والرسل مبنية على العقيدة والإيمان، لا على مجرد النَّسَب والقومية.
ومن هذا المنطلق استحق بنو إسرائيل لما كانوا على الإسلام والإيمان زمن موسى وهارون ويوشع بن نون وراثة الأرض المقدسة -بل أرض مصر أيضًا- بنص القرآن: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 137).
فنحن لا نرى في وراثة موسى ومَن معه من المؤمنين المسلمين لأرض مصر احتلالًا إسرائيليًّا، بل فتحًا إسلاميًّا، قال -تعالى- عن قوم فرعون: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) (الشعراء: 57-58).
فلما زال إيمان بني إسرائيل وإسلامهم بالكفر زال استحقاقهم، وكذلك في أرض فلسطين، فإنهم لم يستحقوها لمجرد أنهم أبناء يعقوب -إسرائيل عليه السلام-، بل لكونهم مسلمين مؤمنين، قال -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس: 84).
ومن نفس المنطلق استحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه أرض يهود المدينة وديارهم وأموالهم، قال -تعالى-: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) (الأحزاب: 27)، فلم يستحقوها بوصفهم عربًا، بل بوصفهم من المسلمين، نصرهم الله على كفار بني إسرائيل.
وإذا كانت "كامب ديفيد" لم تغيِّر عقيدة يهود في استحقاقهم الأرض من الفرات إلى النيل، ولا تزال خريطة إسرائيل على باب الكنيست كذلك بعد المعاهدة، ولم تغير إسرائيل عَلَمَها "نجمة داود بين خطين أزرقين رمزًا لملك إسرائيل بين النهرين"؛ فلماذا يريدون منا أن نغيِّرَ عقيدتنا في استحقاق أرض الإسلام لأرض فلسطين؟ ولماذا يشترطون علينا أن ننقل للأجيال القادمة قتل الرجاء المنشود -بل اليقين الموعود، فالله لا يخلف الميعاد-؟!
ليس مِن حق أحدٍ أن يطلب منا ذلك، وإن كنا نعرف الفرق جيدًا بين المطلوب المرجو وبين الممكن المتاح، وهذا الذي تبحث فيه السياسة، وهو الذي يقدَّر بالمصلحة والمفسدة، والقدرة والعجز، فلا يمكن أن نغفل الموازين عن الأرض؛ لأننا أمرنا بذلك شرعًا: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 66)، ولكن يجب كذلك ألا نسمح بتغيير عقيدتنا وثوابتنا التي يجب أن تنقل للأجيال القادمة واضحة كالشمس، بخلاف ما يريده الأعداء من طمس التاريخ وقتل الرجاء في المستقبل، ولن يكون أبدًا. ولا نسمح بأن تغير السياسة العقيدة، ولا نسمح للنسبي أن يغير المطلق، ولا نرضى بأن يمحو المتغير الثوابت، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص: 88).
2- فلسطين قضية كل المسلمين:
س: هل فلسطين قضية الفلسطينيين وليس المسلمين؟
الإجابة: فلسطين ليست قضية الفلسطينيين، هذا ترسيخ لهذه المسألة؛ لأن قضية فلسطين قضية المسلمين، نحن مسلمون قبل أن نكون مصريين، نحن قضيتنا أننا ننتمي إلى الإسلام أعظم من انتمائنا إلى مصر، فلذلك قضيتنا هي أفغانستان، والعراق، والشيشان، والصومال، وفلسطين كذلك، كلها قضايانا؛ لأن المسلمين جسد واحد، وهذا بنص الحديث: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)، فأين نحن من هذه القضية أم أنه ليس لنا أي علاقة بها؟! مَن يقول هذا يقطع نفسه، يقتل نفسه، ويقتل إيمانه!
3- رفض كل صور التطبيع (مقال: لماذا نرفض التطبيع؟):
يعلم الجميع رفضنا لكلِّ صور التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد يسأل البعض عن مستند ذلك، فنقول: قال الله -تعالى-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة:82)، وقال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13).
فلسطين أرض إسلامية فتحها المسلمون في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولا يمكن لأحدٍ أن يغيِّر صفتها، والمسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث الحرمين؛ بناه على التوحيد والإسلام إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب -عليهم السلام- بعد بناء المسجد الحرام بأربعين عامًا؛ فهو مسجد المسلمين في كل زمان: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67).
وقد صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- يهودَ المدينة صلحًا مطلقًا حقق به مصالح المسلمين في مجتمع المدينة، وكان اليهود هم مَن نقضوا العهد؛ فلا يُمنع مِن صلحٍ يحقق المصلحة ويحافِظ على أرض الإسلام؛ وليس صلحًا يترتب عليه نسيان الأجيال القادمة عقيدتَها وهويتها، ومعرفتها بأوليائها وأعدائها باسم: "التطبيع الثقافي"، ولا تسترد شيئًا مِن الأرض، بل يُكتفَى بوعدٍ بإيقاف مؤقت لضم الأراضي التي "لا يستحقونها" حتى حسب قرارات الأمم المتحدة.
وهو يطلب في مقابل هذا: أن نكف عن تعلم ما نبأنا الله مِن أخبارهم أو نعلمه لأبنائنا، وأن نمكِّن عقولهم للعدو يملأها استكانة وانهزامية، في حين يربون هم أبناءهم على أن يعيشوا حياتهم من أجل حلم إقامة دولتهم الكبرى، نسأل الله ألا يمكِّنهم من ذلك قيد أنملة.
ومِن هذا المنطلق، كان موقفنا الثابت برفض كل صور التطبيع.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.