الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 23 فبراير 2023 - 3 شعبان 1444هـ

الكبائر (9) قطع الأرحام (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- قطع الأرحام من أكبر الكبائر، وأعظم المفاسد التي تدمِّر مجتمعات المسلمين، وقد جاء فيه الوعيد الشديد واللعن الأكيد(1): قال -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).

مكانة صلة الأرحام في الإسلام:

- عظَّم الإسلام من صلة الأرحام، وأقر العربَ على تعظيمهم الصلة ونبذهم القطيعة؛ فخاطبهم من خلالها بالتوحيد: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي ‌تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) (النساء: 1). "وكانت العرب تقول: أنشدك الله والرحم".

- عظم الإسلام من علاقة الأخوة بين عموم المسلمين؛ فرفع من شأن صلة الأرحام أكثر وأشد بين المؤمنين: قال -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال -تعالى-: (‌وَأُولُو ‌الْأَرْحَامِ ‌بَعْضُهُمْ ‌أَوْلَى ‌بِبَعْضٍ ‌فِي ‌كِتَابِ ‌اللَّهِ) (الأنفال: 75).

- وحرم الإسلام القطيعة بين عموم المسلمين، فعظم التحريم أكثر وأشد بين الأرحام المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) (متفق عليه)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: ‌هَذَا ‌مَقَامُ ‌الْعَائِذِ ‌بِكَ ‌مِنَ ‌الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ) (متفق عليه).

- سيأتي الحديث عن فضائل صلة الرحم في الدِّين والدنيا عند الحديث عن وسائل المحافظة على صلة الأرحام.

عقوبة قاطع الرحم في الإسلام:

- قاطع الأرحام ملعون في كتاب الله: قال علي بن الحسين لولده: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواطن: قوله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقوله -تعالى-: (والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد: 25)، وقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27)".

- قاطع الأرحام لا يُرفع له عمل ولا يقبله الله حتى يصل رحمه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّ ‌أَعْمَالَ ‌بَنِي ‌آدَمَ ‌تُعْرَض ‌عَلَى ‌اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عشيةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ ‌عَمَلُ ‌قَاطِعِ ‌رَحِمٍ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني لغيره).

- قاطع الأرحام معجَّل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ -تعالى- لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

- قاطع الرحم لا يدخل الجنة: قال رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).

- قاطع الرحم بالجملة مقطوع الصلة بالله -عز وجل-: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، ‌مَنْ ‌وَصَلَهَا ‌وَصَلْتُهُ، ‌وَمَنْ ‌قَطَعَهَا ‌بَتَتُّهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

من أسباب وقوع القطيعة بين الأرحام(2):

1- الجهل بعاقبة قطيعة الأرحام في الدنيا والآخرة.

2- الحسد، وبخاصة لمَن تميز مِن القرابات بعلم أو مال، أو جمال، أو جاه، أو قبول عند الناس، أو ذرية صالحة.

3- النميمة والوشاية والإصغاء إلى أصحابها.

4- العجب والكبر، ويظهر أكثر بعد الترقي في الوظائف والمراكز الدنيوية أو الدينية من ضعاف الدِّين، فيتنكر لأرحامه الفقراء والبسطاء، بل قد يصل إلى قطيعة الأبوين!

5- حالات الطلاق والنزاعات الأسرية، وكم من إساءات يندى لها الجبين، ارتكبها القرابات عند الطلاق والنزاعات، ما كان يحلم بها الشيطان الرجيم!

سبيل المحافظة على صلة الأرحام:

- يتلخَّص ذلك في أمرين:

أولًا: معرفة فضل الصلة على الدنيا والدين.

- صلة الرحم... سبب لمغفرة الذنوب، وتسهيل الحساب على الإنسان يوم القيامة:‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-:‏ ‏أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ‏-صلى الله عليه وسلم-،‏ ‏فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: (‏هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَبِرَّهَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- صلة الرحم سبب للبركة في العمر والرزق، والذكر الطيب بعد الموت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌سَرَّهُ ‌أَنْ ‌يُبْسَطَ ‌لَهُ ‌فِي ‌رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (متفق عليه).

- صلة الرحم لها أثر عظيم في بثِّ المحبة بين أفراد الأسرة والمجتمع الإسلامي، ويترتب عليها فوائد كثيرة لهم (تناصر - تناصح - تكافل - قوة - رضا الرب).

ثانيًا: الصبر والعفو والصفح والتجاوز:

- الأرحام والقرابات بشر يخطؤون، وهذه طبيعة الحياة: قال الذين عاشوا في بيت نبوة: (إِنَّ أَبَانَا ‌لَفِي ‌ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف: 8)، وقالوا عن أخيهم البريء: (?اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) (يوسف: 9)، ومع ذلك كان موقف الأب: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ . قَالَ ‌سَوْفَ ‌أَسْتَغْفِرُ ‌لَكُمْ ‌رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف: 97-98)، والأخ: (قَالَ ‌لَا ‌تَثْرِيبَ ‌عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92).

- الصبر والإحسان والاحتساب هو سبيل التعامل مع أذى القرابات؛ للحفاظ على صلة الأرحام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) (رواه البخاري). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم). وقال: (‌أَفْضَلُ ‌الصَّدَقَةِ ‌عَلَى ‌ذِي ‌الرَّحِمِ ‌الْكَاشِحِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

خاتمة:

- قم الآن وسارع بصلة أرحامك، واعفُ عنهم وإن أساءوا: قال -تعالى-: (‌وَلْيَعْفُوا ‌وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22)، وقال -تعالى-: (وَسَارِعُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133-134).

فاللهم أصلح ذات بين المسلمين، وألِّف بين قلوبهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأرحام: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم، أو الأرحام وغيرهم -على الراجح من الأقوال-.

(2) لقد وَصَل الأمر ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم ويعاديهم، ويورث ذلك في ذريته، بل ربما يعلن عليهم الحرب الشعواء في المحاكم والقضاء، ولربما كان ذلك لأتفه الأسباب، قال -تعالى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء: 53).