الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 25 يناير 2023 - 3 رجب 1444هـ

الكبائر (5) القتل (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ ‌مُدْخَلًا ‌كَرِيمًا) (النساء: 31).

- قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري).

- الحياة حق لكلِّ إنسان، ولا يحل الاعتداء على هذا الحق إلا بمقتضى الشرع(1): قال الله -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَقْتُلُوا ‌النَّفْسَ ‌الَّتِي ‌حَرَّمَ ‌اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعلٍّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَه بِيَدِهِ الأُخْرَى، تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إلى النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

(1) تعظيم الشرع لحرمة الدماء:

- كل الشرائع عظَّمت من حرمة الدماء، فبعد ذكر قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه، قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون) (المائدة: 32).

- ولعظم حرمة الدماء، كانت هي أول ما يقضى فيه بين الناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في الدِّمَاءِ) (متفق عليه).

- ولأجل ذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعظِّم ذلك في نفوس المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).

(2) أنواع الدماء التي حرَّم الله (الدماء المعصومة):

أولًا: دماء المسلمين:

- دماء المسلمين أعظم الدماء ولو استهان بها الكفار والفجار في كل زمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَزَوَالُ ‌الدُّنْيَا ‌أَهْوَنُ ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌مِنْ ‌قَتْلِ ‌مُؤْمِنٍ ‌بِغَيْرِ ‌حَقٍّ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وعن نافع قال: "وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلى البَيْتِ أَوْ إلى الكَعْبَةِ، فَقَالَ: "مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ" (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح").

- لذا توعَّد الله مَن يقتل مسلمًا بأشد العذاب: قال الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)(2).

ثانيًا: دماء المعاهدين:

- وهي تشمل غير المسلمين من أصحاب العهد المطلق -الجائز- غير محدد المدة، والعهد المؤبَّد -الذي هو الذمة-، وعهد الأمان، أو الهدنة: قال الله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).

- الوعيد الشديد لمَن قتل المعاهدين؛ لوجوب الوفاء بالعهد، ولما يسببه ذلك من فتنة وفوضى، وتشويه لصورة المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه؛ فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟!" (الجواب الكافي).  

(3) الأسباب المؤدية إلى الاستهانة بحرمة الدماء(3):

أولًا: الجهل:

- الجهل يهوِّن في نفوس الناس حرمة الدماء، ولذلك هو قرين جرائم القتل في كلِّ زمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ) (متفق عليه). (وَالهَرْجُ): القتل.

ثانيًا: الغلو:

- أصحاب الغلو والكبر مِن العامة يقابلون الإساءة إليهم بالقتل ونحوه: قال الله -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194).

- أصحاب الغلو مِن المتدينين الجهلة يستهينون بالدماء بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال أولهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمة يقسمها: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ!" (متفق عليه)، ولما كان يوم صفين قال أصحابُه وعقبُه تكفيرًا للصحابة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(4) (الأنعام: 57).

ثالثًا: انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام:

- تصوير القتل والتخريب والجريمة على أن ذلك بطولة أو حرية: قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌يُشِيرُ ‌أَحَدُكُمْ ‌عَلَى ‌أَخِيهِ ‌بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).

رابعًا: شيوع الظلم والفساد المادي والأخلاقي:

- فلا بد أن يتولَّد من ذلك الجرائم التي تؤدي إلى القتل بين الناس: (السرقة - الزنا - الغصب - ... )، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).

خامسًا: عدم العقوبة الرادعة:

- كثير من القَتَلَة يفلتون من العقوبة بالثغرات القانونية؛ فضلًا عن كون كثيرٍ من القوانين مخالفة لأحكام الشريعة(5): قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال: (? ‌وَلَكُمْ ‌فِي ‌الْقِصَاصِ ‌حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179)، وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَمْدُ قَوَدٌ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).

* خاتمة: عود على بدء:

- التذكير بأن قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري).

- التذكير بفضل اجتناب الكبائر: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ ‌مُدْخَلًا ‌كَرِيمًا) (النساء: 31).

فاللهم احقن دماء المسلمين في كلِّ مكان، واحفظ أعراضهم، وآمن روعاتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا يمر يوم من أيام الله، إلا والآلاف من البشر يُقتَلون هنا وهناك، وبأيدي بعضهم البعض ما بين حروب وصراعات!

(2) ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن القاتل قتل العمد للمؤمن لا توبة له، قال: "لا تَوبَةَ لقاتلِ المُؤْمِن عمْدًا" (رواه البخاري)، وإن كان الصحيح خلافه كما هو مذهب الجمهور. وقد قال ابن عباس بذلك؛ للآية، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكًا، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِنًا مُتعمِّدًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

(3) الإشارة إلى أن هذه أبرز الأسباب؛ وإلا فهي أكثر مِن ذلك، ثم الإشارة إلى أن التناول سيكون بإجمال؛ وإلا فالأمر يحتاج إلى حديث منفرد، والله المستعان.

(4) وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال فيهم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ!) (متفق عليه)؛ وإلا فانظر كم قتل غلاة التكفير "الرافضة والخوارج" إلى يومنا هذا من المسلمين، وكم قتلوا من الكفار المشركين؟! بل انظر إلى اتفاقهم على قتل المسلمين من أهل السنة في العراق، وسوريا، وغيرهما.

(5) كثير من هؤلاء يزدادون جُرْمًا وفسادًا بعد عقوبة السجن مع القتلة والمجرمين.