الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 23 فبراير 2022 - 22 رجب 1443هـ

عِبَرٌ مِن التاريخ ... ملازمة مجالس العلم رغم شدة الظروف

كتبه/ رجب صابر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

طلب العلم من معالي الأمور، ومن أعظم العبادات، وهو يحتاج إلى صبر ومصابرة، وحرص ومثابرة، وقد ضرب أبناء أمتنا أروع الأمثلة في هذا، ومن ذلك ما في "الصلة" لابن بشكوال: (قال أبو نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي: كنا نختلف إلى أبي علي البغدادي رحمه الله وقت إملائه بجامع الزهراء، ونحن في فصل الربيع، فبينا أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلتُ إلى مجلسه رحمه الله إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحَوالَي أبي علي أعلامُ أهل قرطبة، فأمرني بالدنو منه، وقال لي: ‌مهلًا ‌يا ‌أبا ‌نصر! لا تأسف على ما عَرض لك، فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، عليك بثياب غيرها تبدلها، ولقد عرض لي ما أبقى بجسمي نُدُوبًا -أي: آثار جروح- يدخل معي القبر، ثم قال لنا:

كنت أختلف إلى ابن مجاهد رحمه الله، فادَّلجتُ إليه -أي: سِرْتُ من آخر الليل- لأتقرب منه، فلما انتهيت إلى الدَّرْب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقًا وراث -أي: استعصى- عليَّ فَتْحُهُ. فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور، وأغلب على القرب منه، فنظرتُ إلى سَرَبٍ -حفير تحت الأرض- بجنب الدار فاقتحمتُه، فلما توسطته ضاق بي، ولم أقدر على الخروج ولا على النهوض، فاقتحمته أشدَّ اقتحام حتى نفذْتُ بعد أن تخرَّقت ثيابي، وأثَّر السَّرَب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله عليَّ بالخروج، فوافيتُ مجلس الشيخ على هذه الحال! فأين أنتَ مما عرض لي! وأنشدنا:

دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ والساعون قد بلغوا        جهدَ النفوس وألْقَوْا دُونَه الأُزُرَا

فكابدوا المجدَ حتى مَلَّ أكثرُهم          وعانَقَ المجدَ مَن أَوْفَى ومَن صَبرَا

لا تحسبِ المجدَ تمرًا أنت آكِلُهُ          لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَقَ الصَّبِرا

قال أبو نصر: فكتبناها عنه من قبل أن يأتي موضعها في نوادره، وسلَّاني بما حكاه، وهان عندي ما عَرض لي من تلك الثياب، واستكثرتُ من الاختلاف إليه، ولم أفارقْه حتى مات رحمه الله).

فتأمل في حرص أبي نصر النحوي على مجلس العلم، مع تبلل ثيابه كلها إثر نزول المطر، وانظر إلى شيخه أبي علي البغدادي، وكيف كان حرصه على التبكير إلى مجلس ابن مجاهد المقرئ، وكيف أدَّى به هذا إلى آثار جروح باقية في بدنه، فلم يمنعهم رحمهم الله عن مجالس العلم والتبكير إليها ما لاقوه من ظروف صعبة وأحوال شديدة؛ سواء في الزمان أو المكان!

وصدق ابن فارس النحوي في قوله -كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر-:

إذا كان يؤذيك حرُّ المصيفِ             ويُبْسُ الخريفِ وبرْدُ الشتا

ويُلهيكَ حُسْنُ ‌زمانِ ‌الربيعِ               فأخذُكَ ‌للعلم ‌قل ‌لي ‌متى؟!

أسأل الله أن يرزقنا علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا.

وكم في التاريخ مِن عِبَرٍ ... فاعْتبروا يا أولي الأبصار.