الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 18 أغسطس 2018 - 7 ذو الحجة 1439هـ

تفقد أحوال الغائبين وأُسَرهم

كتبه/ صبحي فتحي الشلمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد حكى لي أحد الاصدقاء أنه ذهب إلى عمرة رمضان الماضي، وترك زوجته وأولاده الأربعة، أكبرهم شاب في التعليم الجامعي، ولما سافر وبعد عدة أيام مِن سفره سأل زوجته: هل سأل عليكم أحد مِن إخواني أو تفقد حالكم أحد فكانت الإجابة أن لا أحد!

فاستشعر ذلك الصديق الخطر، وأنه قد يمكث شهر رمضان كله ولا يسأل عن أولاده أحد مِن الإخوة فيترك ذلك في نفوسهم شيئًا؛ فاضطر إلى أن يتصل هو، ويبعث برسائل إلى الإخوة أن يتصلوا بابنه الأكبر، وأرسل لهم رقم هاتفه؛ فاستجاب البعض لرسائله، واتصلوا بابنه الأكبر!

ولا تدري كم صنعت هذه الاتصالات في نفس الزوجة والابن الأكبر؟!

حينها استشعروا بقيمه الانتماء إلى كيانٍ ودعوةٍ، وترك ذلك في نفوسهم -وإلى الآن- أحسن الأثر وأجمل الشعور تجاه الدعوة والإخوة والمنهج، واذا تدبرنا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- نرى واضحًا جليًّا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتفقد أصحابه ويسأل عنهم وعن أسرهم، يتضح ذلك مِن مواقفه مع جابر بن عبد الله بن حرام -رضي الله عنهما-، قال جابر: مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ، فَإِذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-... " (رواه البخاري)، وعنه -رضي الله عنه- قال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (بِكْرٌ، أَمْ ثَيِّبٌ؟) قُلْتُ: ثَيِّبٌ، قَالَ: (فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ، فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ، قَالَ: (فَذَاكَ إِذَنْ، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا، وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) (متفق عليه).

وكذلك تفقده -صلى الله عليه وسلم- للمرأة التي كانت تقم المسجد -أي تجمع قمامته-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: مَاتَت، قَالَ: (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ: (دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا) فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا. (متفق عليه)، وتفقد -صلى الله عليه وسلم- لجليبيب في أحد المعارك، حيث سأل أصحابه: (هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟) قَالُوا: لَا، قَالَ: (لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ) فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ) (رواه مسلم).

وقد كان هديه -صلى الله عليه وسلم- السؤال عمَن غاب مِن أصحابه -رضي الله عنهم-، وهذا كثير جدًّا في سنته -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ، مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ: فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: (اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) (متفق عليه)، وغيرهم مِن صحابته الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.

لذلك تقرر أنه يجب علينا جميعًا إذا علمنا أو استشعرنا غياب أحد مِن إخواننا أو علمنا بسفره إلى العمرة أو الحج أو العمل أن نبادر ونتفقد أحوال أسرته، ونواليهم بالسؤال عنهم وعن أحوالهم واحتياجاتهم؛ لنكون عونًا لهم، وعاملًا على تثبيتهم، وزيادة انتمائهم وارتباطهم بالدعوة والمنهج.

مع مراعاة الضوابط الشرعية في الاتصال والسؤال؛ لئلا يؤدي إلى مفاسد، ولتحيا هذه الأمة معاني الحب والود والإخاء والإيثار؛ لأن هذه الأمة يجب أن يعيش أفرادها كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضًا.

وإن تفقد الناسِ بعضهم بعضًا يبعَثُ على إيجاد مجتمعٍ مُترابِطةٍ أوصَالُه، مُتَحابَّةٍ أفرادُه؛ بل يجعلهم جميعًا كمَثَلِ الجسد الواحد، كما في وصف النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لحال جماعة المسلمين: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).

نسأل الله أن يوفقنا إلى أن نكون عونًا في تثبيت إخواننا، ولا يجعلنا فتنه للذين آمنوا.

والله يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل.