الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 21 نوفمبر 2016 - 21 صفر 1438هـ

تركيا التي لا نعرفها (13)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سعى "أردوغان" بعد رئاسته لتركيا، وتشكيل حزبه -حزب العدالة والتنمية- للحكومة إلى تحقيق فكرِه المتعلق بالجمهورية التركية الثانية، كدولة ديمقراطية علمانية قوية متطورة، في إطار التمسك بهوية الدولة وأصولها العثمانية، وهو ما جعل معارِضيه يطلقون عليه وعلى أتباعه (العثمانيون الجدد).

وقد استطاع "أردوغان" مِن خلال الفترة الطويلة في الحكم أن يرسخ كثيرًا مِن فكره وتطلعاته، ولتحقيق ذلك:

- قلّص مِن نفوذ المؤسسة العسكرية في أمور الدولة وتدخلها في سياستها، وأخضع قادتها للقانون، بمقتضى التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان.

- تخلّص مِن الكثير مِن الإرث العلماني الذي وضعه "أتاتورك" و"الكماليون"، والذي كان يعادي -بشدة- أي مظاهر إسلامية في البلاد.

أعاد الكثير مِن مظاهر العهد العثماني في البلاد:

- فقرر تدريس اللغة العثمانية في المراحل الثانوية، باعتبارها شكلاً مِن أشكال اللغة التركية.

- أعاد عزف النشيد العثماني في القصر الجمهوري بدلاً مِن النشيد التركي.

- أعاد شعار الدولة العثمانية المعروف بـ(الطغراء)، بموافقة لجنة الشئون الدستورية بالبرلمان، بعد أن كان قد أُلغي مع سقوط الخلافة العثمانية عام 1922م.

- جعل حرس الشرف خلفه في بعض الاحتفالات الرسمية في هيئة جنود مِن المحاربين الأتراك القدامى، ومِن الذين يرتدون الزى العسكري العثماني، وضم إليهم الفرقة العسكرية العثمانية المعروفة باسم (مهترخانة).

- استكمل سعيه لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي، مع التأكيد على بقاء تركيا محافظة على دينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها المستمدة مِن هويتها العثمانية.

التحذير مِن "الدولة الموازية":

أكد "أردوغان" على رفضه لتغلغل النشاط الديني داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وعَدّ ذلك مما يهدد استقرار الدولة ومؤسساتها، وندد بـ(حركة خدمة) الموالية للداعية الإسلامي (فتح الله كولن)، وزعم أن نشاطَها يمتد وأتباعَها ينتشرون داخل الجيش والشرطة والقضاء والجامعات والمدارس التعليمية والجمعيات الأهلية، ولها مؤسساتها داخل وخارج تركيا، وتتلقى دعمًا كبيرًا مِن العديد مِن رجال الأعمال المنتمين لها، والمتعاطفين معها، وتدعمها أيضًا طوائف مِن المعارضين لأردوغان؛ مما يجعلها تمثـِّل تهديدًا لسلطة الدولة في نظره.

وقد تحول هذا الأمر إلى اتهامات متبادَلة على خلفية اتهام النظام لأتباع "كولن" بتحريك قضايا فساد مالي وإداري اتهموا فيها رجال أعمال ووزراء تابعين للنظام في عام 2013م.

وقد شاركت المعارَضة في هذه الاتهامات، والمؤسسات الإعلامية المقربة مِن المعارَضة ومِن (حركة خِدْمة)، حيث وصفوا سياسات "أردوغان" بالاستبدادية، واتهموا الحكومة ومَن تساندهم مِن رجال الأعمال بالفساد، وشهدت تركيا معها مِن آن لآخر مظاهرات واحتجاجات غاضبة، اتسمت بالعنف أحيانًا.

وعلى ذلك:

- عمد "أردوغان" إلى تضييق الخناق على رجال الأعمال التابعين لجماعة "كولن"، وتحجيم نفوذ رجال الأعمال المحسوبين على التيار العلماني، وإن ظلت السياسية العامة للدولة داعمة لتحرير الاقتصاد، وتدعيم وتعزيز دور الرأسماليين.

- تم رسميًّا تصنيف جماعة فتح الله كولن (حركة خدمة) كمنظمة إرهابية بعد موافقة مجلس الأمن القومي التركي في مايو 2016م.

- تمكن "أردوغان" بمقتضى ذلك من البدء في تصفية أو تجميد شركات ومؤسسات تابعة لجماعة "كولن" أو متورطة في تمويلها، حيث يجيز قانون حظر تمويل الإرهاب لعام 2013م تجميد أصول الأفراد أو الدول المتورطة في تمويل الإرهاب، والمعاقبة بالسجن، وفرض غرامات مالية.

- حاصرت الحكومة رجال الأعمال المقربين من جماعة "كولن"، واعتقلت بعضهم بالفعل.

ومِن ذلك:

- اعتقال قوات الأمن (رضا نور ميرال) رئيس الرابطة التركية لرجال الأعمال والصناعة (توسكون).

- القبض على (ممدوح بويداق) الرئيس التنفيذي لشركة (بويداق) بتهمة تمويل "حركة خدمة".

- اعتقال عشرات من رجال الأعمال يُعتقد أنهم تابعون لجماعة "كولن".

- مصادرة بعض الأصول المالية؛ لمحاصرة جماعة "كولن" اقتصاديًّا.

فمِن ذلك:

- نقل الصلاحيات الخاصة بإدارة (بنك آسيا) الذي يعتقد أن ملكيته لرجال أعمال مقربين مِن "كولن" إلى صندوق تأمين الودائع التركية في مايو 2015م، وإعفاؤه مِن مميزات ضريبية.

- تعيين محكمة الصلح والجزاء التركية وصيًّا على شركات (كايناك)، التي يعتقد ملكيتها لرجال أعمال مقربين مِن "كولن".

الضغوط الدولية والإقليمية على تركيا:

واجه "أردوغان" الأحداث المشتعلة في العراق وسوريا في السنوات الأخيرة، والتي أطلت بظلالها على تركيا، وجعلتها إحدى القوى المتصارعة مع القوى الأخرى الإقليمية والدولية على مصالحها في المنطقة، حفاظـًا على مصالح تركيا مِن جهة، ولمواجهة التصاعد الكردي في شمال العراق، وتمدد "داعش" في المنطقة، وحاجة المعارضة السورية إلى الدعم في مواجهة نظام بشار الأسد مِن جهة أخرى؛ مما جعل تركيا تحت ضغوط غير عادية تحتاج إلى حنكة عالية في معالجة الأمور مع تقلب الأحداث وتدافعها.

فتح الله كولن و(حركة خِدْمة):

- ولد محمد فتح الله كولن -الداعية والمفكر الإسلامي التركي- في 27 أبريل 1941م، في محافظة (أرض روم) في أسرة متدينة، كان والده مشهودًا له بالعلم والأدب والدين، وكانت والدته معروفة بتدينها، حيث علّمته القرآن في سن صغيرة، وعلّمه أبوه اللغتين العربية والفارسية.

- وكان أبوه يستضيف العلماء والمتصوِّفة؛ فاعتاد مجالستهم والاستماع إليهم.

- درس دراسة دينية، وتردد إلى (التكية)، وتعلم النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقيدة إلى جانب العلوم الدنيوية والفلسفة.

- وتعرف في أعوام دراسته على (رسائل النور)، التي كتبها العلامة (بديع الزمان سعيد النورسي) (1873م -1960م) مؤسس الطريقة النورسية، كحركة تجديدية وإحيائية، ويعد "كولن" مِن أتباع "النورسية".

- عُيِّن "كولن" إمامًا لجامع في مدينة (أدرنة) وهو في العشرين؛ فعاش في جوّ مِن الزهد ورياضة النفس.

- ثم بدأ عمله الدعوي في مدرسة تحفيظ للقرآن بجامع في (أزمير)، ثم عمل واعظـًا متجولاً، يلقي مواعظه على الناس في الجوامع في جميع أنحاء غرب الأناضول، يسعى في تربية النفوس وتطهيرها، ويذكرها بخالقها، ويعقد الندوات والمجالس واللقاءات الخاصة ليجيب فيها على الأسئلة الحائرة في أذهان الناس -والشباب خاصة-، ويرتب المحاضرات الدينية والعلمية والاجتماعية والفكرية والفلسفية، وكانت النفوس ظمأى إلى مثل هذا المرشد.

- وقد قام مَن استفادوا مِن أفكاره بإنشاء العديد مِن المدارس الخاصة والمطابع، وألّفوا الكتب، وأنشأوا محطة إذاعية وقناة تلفزيونية في إطار القوانين المرعية في تركيا.

- وقد ازدهرت الحركة مع انتعاش الأنشطة الدينية عامة والطريقة النورسية خاصة -التي تأثرت بها حركة كولن- بعد انقلاب (كنعان إيفرين) العسكري عام 1980م، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي انتشرت المدارس التابعة لـ"كولن" في دول آسيا الوسطى التي عانت مِن الاحتلال الروسي، ومِن الإلحاد الشيوعي سبعين عامًا تقريبًا، ومنها انتشرت هذه المدارس في العالم بأسره.

- تحولت جهود "كولن" -خاصة في التسعينيات- إلى حركة رائدة في الحوار والتفاهم بيْن الأديان والأفكار، تتسم بنوع مِن المرونة والبعد عن التعصّب والانفتاح على العالم، ووجدت صداها في تركيا ثم في خارجها، خاصة بعد دعوة بابا الفاتيكان لكولن واجتماعه به.

فأصبح "كولن" مؤسِّسًا لحركة تمتلك مئات المدارس في تركيا وخارجها، بدءًا مِن جمهوريات آسيا الوسطى وروسيا، إلى المغرب وأوغندا وكينيا، مرورًا بالبلقان والقوقاز، وتملك صحفها ومجلاتها وقنواتها التلفزيونية الخاصة، وشركات خاصة وأعمالاً تجارية، ومؤسسات خيرية، ولها مراكز ثقافية في عدد كبير مِن دول العالم، وتقيم مؤتمرات سنوية في بريطانيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا بالتعاون مع كبرى الجامعات؛ لذا أطلق على "كولن" (أبو الإسلام الاجتماعي)، كما أطلق على "أربكان" (أبو الإسلام السياسي).

- صورت الدوريات الغربية "كولن" كزعيم لحركة اجتماعية إسلامية غير مُعادٍ للغرب، بينما رآه معارضوه في تركيا على أنه الخطر الحقيقي على العلمانية، ويحاول تقويضها عبر أسلمة الممارسات الاجتماعية للأتراك.

بيْن "أربكان" و"كولن":

- بينما يرى "أربكان" أمريكا عدوًا للعالم الإسلامي بسبب تحكم الصهيونية العالمية في قرارها، فإن "كولن" يرى أمريكا والغرب قوى عالمية لا بد مِن التعاون معها.

- يرى "أربكان" ضرورة الوحدة بين العالم الإسلامي، وينظر إلى العالم العربي بوصفه المجال الحيوي لتركيا، بينما يعتبر "كولن" جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز و دول البلقان هم المجال الحيوي لتركيا لعودتها لمكانتها بيْن دول العالم، حيث تضم هذه الدول أقليات تركية هامة.

- يرى "كولن" أن أكثر قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، وما يتعلق بإدارة شئون الدولة فيها قليل؛ لذا لم يعطِ أولوية للدعوة لتطبيق الشريعة في الشأن العام!

- رغم أنه يُنظر إلى "أربكان" على أنه هو أستاذ "أردوغان"؛ إلا أن نهج "أردوغان" في تجربته في حزب العدالة والتنمية يشير إلى أن "كولن" هو الأستاذ الحقيقي لـ"أردوغان".

انتقال "كولن" إلى أمريكا:

- في عام 1999م في حديث لـ"كولن" للتليفزيون التركي صرح بكلام اعتبره البعض انتقادًا لمؤسسات الدولة التركية؛ مما تسبب في تحقيق المدعي العام للدولة معه، ورغم اعتذار "كولن" علانية عن تصريحاته فقد ظل العلمانيون متشككين في أهدافه، ووجهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما فيها الجيش، خاصة بعد تسرب لقطة فيديو لـ"كولن" وهو يقول لأنصاره أنه سيتحرك ببطء مِن أجل تغيير طبيعة النظام التركي مِن نظام علماني إلى نظام إسلامي.

- وقد غادر "كولن" تركيا بعدها إلى أمريكا بدعوى العلاج، وأقام فيها في ولاية (بنسلفانيا) كمنفى اختياري إلى الآن.

- ألّف "كولن" 60 كتابًا، وأغلبها حول التصوف والتدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم، ونال عليها العديد مِن الجوائز، كما كان له كتاب في السيرة النبوية باسم (النور الخالد).

- كان "كولن" حليفًا لـ"أردوغان"، وساهم عن طريق أتباعه في تخفيف وطأة العلمانية داخل الجيش، لكن "أردوغان" اتهمه مِن بعد عام 2013م، بأنه وراء التهم الموجهة للمسئولين في الحكومة بالفساد للتأثير سلبًا على حزب العدالة والتنمية.