الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 11 فبراير 2010 - 27 صفر 1431هـ

توضيح حول كلام شيخ الإسلام في الاستعانة بالجن

السؤال:

ما المقصود بالكلام المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن استعمال الجن في المباح مباح؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فاستعمال الجن المباح عند شيخ الإسلام ابن تيمية يقصد به -إن شاء الله- استعماله دون طلب، أي: إذا فعل الجني شيئًا ينتفع به المسلم، وكان شيئًا مباحًا، ودون أن يطلب من الجني ذلك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وأيضًا في استخبار الجني إذا كان عنده ما يُعرف به صدقه من كذبه فيجوز له أن يسأله، وهو إنما يعرف ذلك إذا كان عنده معلومات، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد: (إنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا)، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: "هُوَ الدُّخُّ"، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) (متفق عليه)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان عنده ما يختبره به؛ فلو أن إنسانـًا عنده من العلم ما يختبر به الكاهن والجني فيعرف صدقه من كذبه جاز له ذلك، أما أن يسأله على سبيل الاستخبار الذي يُبنى عليه العمل، مثل أن يسأله: من الذي قام بعمل هذا السحر؟ فيقول له: فلان، فيخرج ويقول للناس: فلان هو الذي قام بعمل هذا السحر، فمن أين لك أن تعرف صدق هذا مِن كذبه؟!

وابن تيمية -رحمه الله- قد ذكر أن مِن أحوال أولياء الشيطان أنه يَحمل أحدهم إلى عرفة في يوم عرفة؛ فهل قال أحد أن هذا من المباحات، بل من الطاعات؟! هل قال أحد: لا آخذ الزاد أو الراحلة، بل أطلب من الجني أن ينقلني جوًّا -في ذاك الزمن- إلى عرفة فأشهد الحج؟! لماذا عدَّ شيخ الإسلام -رحمه الله- ذلك من أحوال أولياء الشيطان؟!

ونحن لا يصح أن نعامل كلام أهل العلم على أنه كالنصوص أو الأدلة؛ بل نعرض كلام شيخ الإسلام على ما قاله الله -تعالى- والرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلو أمكن أن يُحمل على معنى يوافق الكتاب والسنة حملناه، وإذا لم يمكن رددنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

وإلا ففي قول الله -عز وجل-: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن:6)؛ أليس إذا عاملنا نصوص العلماء بهذه الطريقة يكون طلب الإنسان مِن بعض الجن أن يجعله في أمان من سفهائهم مباحًا؟!

وقد قال الله -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وقال: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فطلب العوذ والحماية مِن غائب هو نوع مِن الشرك ولو كان في أمر مباح، ولذا قال العلماء أن في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) (رواه مسلم)، دليلاً على أن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه لا يُستعاذ بمخلوق، يعني على الغيب.

وأما أن تستعيذ بمسلم حاضر أمامك تراه وتسمعه؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلاَمَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ، فَتَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ)، فَأَعْتَقَهُ (رواه مسلم)، فقد قال الغلام: "أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ" بعد أن كان قبل أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَعُوذُ بِاللَّهِ"، فدل ذلك على أن الاستعاذة الجائزة هي الاستعاذة بالحاضر المُشاهَد، وأما الاستعاذة بالجن فالجن غيب لنا، فهذا من جنس استعاذة المشركين إذا نزل أحدهم منزلاً فقال: "أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه"، فنقول:

قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافـًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).