كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فضل تلاوة القرآن:
قال الله -تعالى-: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: 4)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر: 29)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191)، وقال -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر: 9).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حُلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
آداب تلاوة القرآن:
1- الطهارة:
أن يتلوه على طهارة، وإن حصل الخلاف بين أهل العلم في حكم الطهارة لتلاوة القرآن لمس المصحف، لكن لا شك أن تلاوته على طهارة أفضل، وأما مجرد التلاوة بدون مس المصحف فلا يشترط لها الطهارة، وإنما إذا كان على جنابة فلا يقرأ حتى يغتسل، وعذره يزول، بخلاف عذر الحائض التي تمكث وقتًا لا تستطيع أن تزيل عذرها بيدها، ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). لكن تجوز القراءة للمحدث حدثًا أصغر؛ لأنه صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ) (رواه مسلم). والراجح للحائض: أنه يجوز لها قراءة القرآن، لكن دون مس المصحف، فإن احتاجت إلى مسه فليكن بخشبة أو بقلم أو بقفاز أو بخرقة، ونحو ذلك.
2- التسوك عند تلاوة القرآن:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ فَيَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ) (رواه البزار، وقال الألباني: "حسن صحيح، كما في صحيح الترغيب والترهيب").
3- الاستعاذة عند إرادة تلاوة القرآن:
قال -تعالى-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل: 98).
قال بعض أهل العلم: يجب التعوذ عند قراءة القرآن لظاهر الأمر. والأفضل الجهر بالتلاوة، وبه قال جمهور العلماء.
قال ابن الجزري -رحمه الله-: "المختار عند أئمة القراءة: الجهر بها" (الإتقان في علوم القرآن).
مسألة: إذا كان جماعة في مقام التعليم يقرؤون، فتعوذ الأول وقرأ، ثم توقف ليقرأ الثاني، فلا يجب إعادة الاستعاذة؛ لأن القراءة هنا في حكم المتصلة، فلا يجب إعادة الاستعاذة من القارئ الثاني والثالث، وهكذا.
4- البسملة في أول كل سورة غير براءة:
فيحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة غير براءة، فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف انقضاء السورة وابتداء السورة التي تليها بالبسملة، إلا في موضع واحد، وهو ما بين الأنفال وبراءة، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- تركوهما بغير بسملة بينهما؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي ولم يبيِّن لهم، هل الأنفال وبراءة سورة واحدة أم لا؟
فلو وضعوا البسملة صارتا سورتين منفصلتين، وإذا لم يضعوا البسملة في بداية السورة لتوهم الناس أنهما سورة واحدة، فتركوهما بهذا الشكل الموجود الآن. وكذلك بما أن البسملة آية، فالسُّنة ألا توصل بما بعدها، فيستعيذ بالله ثم يتوقف، ثم يقرأ البسملة ويتوقف، ثم يشرع في قراءة الآيات، أو السورة. وبما أن البسملة هي في بداية كل سورة، فإذا بدأ من وسط سورة، فإنه يكتفي بالاستعاذة.
5- ترتيل القرآن:
ومن آداب التلاوة: ترتيل القرآن؛ لأن الله -تعالى- قال: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: 4).
ونعتت أم سلمة -رضي الله عنها- قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها كانت قراءة مفسَّرة حرفًا حرفًا، وفي البخاري سئل أنس -رضي الله عنه- كيف كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ -أَيْ: الْمَدُّ الطَّبِيعِيُّ حَرَكَتَيْنِ-، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ".
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال له: "إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا كَهَذِّ الشِّعْرِ؟ إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ".
6- الاجتماع لتلاوة القرآن:
ومما يتعلق كذلك بآداب التلاوة: الاجتماع لتلاوته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).
فالاجتماع لتلاوة القرآن ومدارسته من السنن والمستحبات العظيمة. ولا يعني قوله: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ) أي: يتلونه بصوت واحد، كما لا يعني أن كل واحد يقرأ وراء الآخر مقطعًا مقطعًا، كما يفعل كثير من الناس؛ لأنه قد ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا إذا جلسوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ ويستمع الباقون.
أما طريقة الإدارة في التلاوة، أي: أن يقرأ كل واحد مقطعًا، ثم يقرأ الآخر، فهذه طريقة مكروهة، وبعضهم يقول: مبتدعة؛ إلا في مقام التعليم، يعني التعليم عند شيخ يأمر شخصًا أن يقرأ، ثم يأمر الآخر، وهكذا الثالث والرابع، أو في التحفيظ -مثلًا- يسمع الأول ثم الثاني ثم الثالث، لكن إذا اجتمعوا مجموعة في المسجد، فإن السُّنة أن يقرأ واحد منهم مثل أن يكون أنداهم صوتًا، أو أفضلهم قراءة، ويستمع الباقون.
7- تحسين الصوت:
وكذلك من آداب التلاوة: تحسين الصوت بالقرآن؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا) (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني). وفي رواية: (حُسْنُ الصَّوْتِ زَيْنَةُ الْقُرْآنِ) (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني). وتحسين الصوت: تجميله، وتزيينه، والاعتناء به، والإبداع فيه.
8- التغني بالقراءة:
وكذلك من آداب التلاوة: أن يتغنى بالقرآن، وهذا تابع لما ذكرناه قبل قليل من تحسين الصوت به؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) (متفق عليه)، فالتغني بالقرآن من آداب التلاوة ومستحباتها. ومعنى التغني: تحسين الصوت.
9- ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام:
ومن آداب تلاوة القرآن: ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين").
10- التلاوة بين الجهر والإسرار:
أما الجهر بالقرآن، فقد ورد فيه أحاديث، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ -يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ- يَجْهَرُ بِهِ) (متفق عليه).
ومن الجهة الأخرى ورد قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ) (رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: "إسناده صحيح").
قال النووي -رحمه الله-: "الجمع بينهما أن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى مصلون، كالداخلين إلى المسجد يصلون تحية المسجد أو السنة الراتبة، وواحد يقرأ القرآن، فإذا جهر هذا الذي يقرأ لبَّس على المصلين بجواره، فيكون الإسرار أفضل، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، فيه رفع للصوت، وبذل طاقة وجهد، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه" (التبيان في آداب حملة القرآن).
يعني: إذا رفع صوته يكون أجمع لقلبه على القراءة، وأطرد للشيطان، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وأما إذا وصل إلى الإزعاج والتشويش، فإنه ينطبق عليه ما جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يسر، وعمر -رضي الله عنه- يجهر، فسئل عمر -رضي الله عنه-، فقال: (أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوِسْنَانَ)، أي: النعسان، فأمر أبو بكر -رضي الله عنه- أن يرفع شيئًا، وأمر عمر -رضي الله عنه- أن يخفض شيئًا (تفسير القرآن العظيم).
11- القراءة من المصحف إذا لم يشغل عن التدبر:
وهنا مسألة: أيهما أفضل للتالي: أن يقرأ من المصحف أو يقرأ من حفظه؟
والأقرب: أن القراءة من المصحف أفضل؛ لأن النظر فيه عبادة، فيجتمع القراءة والنظر، وأن استعمال الحاسة -حاسة العين- زيادة على اللسان، وإخراج الصوت؛ هذا الاستعمال لهذه الحاسة فيه أجر زائد عن عدم استخدام هذه الحاسة. ولا شك أنه قد ثبت عن بعض الصحابة كعثمان -رضي الله عنه- أنه كان يقرأ في المصحف، حتى قيل: إنه خرق مصحفين، أي: من كثرة استعماله للمصحف تخرق المصحف، وأخذ مصحفًا آخر.
وقال النووي -رحمه الله-: "إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من القراءة في المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل، قال: وهو مراد السلف" (التبيان في آداب حملة القرآن).
قلتُ: وعلى ذلك فالقراءة من المصحف أفضل من الهاتف ونحوه -بلا شك-. وللحافظ أن يقرأ من حفظه في قيام الليل والنوافل.
12- سجود التلاوة:
كذلك من آداب التلاوة: أنه إذا مَرَّ بسجدة للتلاوة سجد، وقال أبو حنيفة -رحمه الله- بالوجوب، وأن الكفار يندمون على عدم السجود، وأنه لا يندم إلا على ترك واجب، وقول الجمهور هو القول الراجح إن شاء الله، أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب. والأفضل إذا أراد أن يسجد أن يكون من قيام.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الأفضل أن يكون في حال القيام، لقول الله -تعالى-: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) (الإسراء: 107)" (مجموع الفتاوى).
13- الجلوس بأدب عند قراءة القرآن:
ومن آداب التلاوة أيضًا: أنه ينبغي عليه أن يكون في حال القراءة على هيئة الأدب ما أمكنه، فيجلس جلسة المتخشع، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَانَ يَتَرَبَّعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) (رواه مسلم).
ويجوز له أن يقرأ القرآن قاعدًا وواقفًا وماشيًا ومضطجعًا؛ لأن الله -تعالى- قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 191).
نفعنا الله وإياكم بالقرآن العظيم.