الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 - 6 جمادى الأولى 1447هـ

الواصل موصول والمقاطع مقطوع

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالله -تعالى- رحيم منان، شكور كريم، يَشْكُر لعباده القليل من العمل ويُجازي عليه الكثير من المنن في الدنيا والآخرة، لتكون سببًا مُعِينًا لعباده ليُقْبِلوا على طاعته سبحانه وبحمده؛ لما يَرَوْن من عظيم أثر هذه العبادة، هذا مع كامل غناه عنهم وعظيم وغاية فقرهم إليه، فما أرحمه من إله كريم.

من آثار العبادات ما هو معنوي -وهو الأعظم-؛ فيَجِد المؤمن المطيع في صدره اللذة والراحة، والأنس بالله أمرًا عظيمًا يَزْدَاد بزيادة العبادة والطاعة والإخلاص لله، ومنها ما هو مادي ملموس.

ومن هذه العبادات العظيمة القدر التي عَجَّل الله ثوابها في الدنيا قبل الآخرة: "صلة الرحم"، والعجيب أن الإحسان عامة وخاصة بالأرحام معلوم عند الناس، يَجِدون أثره أمامهم ظاهرًا يُنادي على جميل صنع فاعله، كما قالت خديجة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أصابه ما أصابه من الروع والخوف بعد رؤية جبريل أول مرة بغار حراء، فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)، فأجابته -رضي الله عنها- بما يُسَكِّن ويُطَمْئِن به نفسه الشريفة من سابق إحسانه وفضله على القريب والبعيد، وصَدَّرَته بصلة الرحم، فقالت -رضي الله عنها-: "لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" (رواه البخاري).

ولعل هذا مشابه لقوله -صلى الله عليه وسلم- حتى نَعْلَم أن هذا مما شاهده وعَلِمه الناس وصَدَّقه الوحي الشريف، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَالصَّدَقَةُ خَفِيًّا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الْآخِرَةِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

وعنه -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

ويكفي أن صاحبها موصول قد وَصَلَه الله ببره وفضله وإحسانه في الدارين، ولعل في هذا إشارة -والله أعلم- أن المؤمن يَسْتَغْنِي بوصل الله له سواء وَصَلَه رحمه أم لا، وكذا قاطعها مقطوع عن ذلك أيضًا قد قَطَعَه الله، كما في الحديث: (إِنَّ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) (رواه البخاري).

ومنها أنها سبب لسعة الأرزاق وبركة وطول الأعمار وإعمار الديار، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (رواه البخاري ومسلم).

وكذا كما في الحديث الآخر: (إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وانظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يُبَرِّز لك أثر صلة الرحم بين المسلمين ولو كان فيهم ما فيهم من السوء والفجور، ولا يَظْلِم ربك أحدًا، بل هو شكور كريم سبحانه وبحمده.

قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا لَصِلَةُ الرَّحِمِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَكُونُونَ فُجَّارًا فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

فذلك يُبَرِّز لك مقصدًا عظيمًا من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي شيوع المحبة والتواد والإخاء بين المسلمين بعضهم بعضًا، لا سيما الأرحام، وذلك يَحْصُل بصلتهم والإحسان إليهم والنفقة عليهم وبذل المعروف لهم، فالله الكريم قد جعل لك أجرين في الصدقة عليهم، كما في الحديث: (الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

وكذا الصبر على أذاهم وعدم صلتهم له، فليس الواصل بالمكافئ، كما في الحديث: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) (رواه البخاري).

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.