الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 09 سبتمبر 2025 - 17 ربيع الأول 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (227) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت وتأذينه في الناس بالحج (10)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

قال القرطبي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: "المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء، وخالف في ذلك أبو حنيفة، والنخعي، وروي عن علي، والحديث حجة عليهم "قلتُ: أي لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، والأحاديث المرغِّبة في الأضحية تشمل المقيم والمسافر".

واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم يرَ عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين: أبي بكر، وعمر، وجماعة من السلف -رضي الله عنهم-؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي، فإذا أراد أن يضحي جعله هديًا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظٌّ من أجرهم. "قلتُ: هذا هو الصحيح؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يضحِّ بمنى، بل زاد في الهدي حتى بلغ هديه -صلى الله عليه وسلم- مائة ولم يجعل سُبعًا منها أضحية".

قال: واختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال؛ روي عن علي وابن عمر -رضي الله عنهما- من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي. وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلقًا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر؛ لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله -عليه السلام-: (إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ ‌مِنْ ‌أَجْلِ ‌الدَّافَّةِ ‌الَّتِي ‌دَفَّتْ)، ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدِّم لارتفاع موجبه؛ لا لأنه منسوخ. "قلتُ: هذا هو الأقرب إلى ظاهر الأحاديث وقواعد الأصول".

وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي: الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته. اعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدًا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قَدِم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا؛ لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معًا كما هو منصوص في حديث عائشة، وسلمة بن الأكوع، وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. "قلتُ: يعني قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُمْسِكُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ‌فَكُلُوا وَادَّخِرُوا) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وروي معناه عن الصحابة الذين ذكرهم".

وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا ‌كُنَّا ‌نَهَيْنَاكُمْ ‌عَنْ ‌لُحُومِهَا أَنْ تَأْكُلُوهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ لِكَيْ تَسَعَكُمْ، فَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالسَّعَةِ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَأْتَجِرُوا، أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تتضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعثمان محصور؛ لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما روى عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة -رضي الله عنها- عن لحوم الأضاحي، فقالت: قَدِم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأله فقال: كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة. "قلتُ: في سنده مقال".

وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقًا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعًا، فعمل بمقتضاهما. والله أعلم" (انتهى من تفسير القرطبي).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.