الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 11 مارس 2025 - 11 رمضان 1446هـ

رمضان وتربية النفس (2) (من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد شرع الله لنا الصيام الذي هو أنفع أنواع التهذيب، أن تمتنع مِن طلوع الفجر إلى غروب الشمس مِن الطعام والشراب والشهوة، وأحل الله لنا ذلك فيما بيْن المغرب إلى طلوع الفجر الصادق، وهذا هو الوسطية المطلوبة التي فقدها الرهبان الذين كانوا على الرهبانية المبتدعة، كما وصف لله -تعالى-: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا(الحديد:27)، حرَّموا على أنفسهم ما أحلَّ الله؛ ولذا قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(المائدة:87).

فالواحد منهم يحرِّم على نفسه أكل اللحم، ونكاح النساء، والنوم بالليل أو على الفراش، وهذا كان موجودًا في بعض مَن غالى في العبادة في أول الإسلام أو في أوائل الصوفية، وهؤلاء فقدوا الوسطية؛ ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، ولما قالوا له: إنك تواصل، قال: (إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي(متفق عليه)؛ ولذلك فأكثر أهل العلم على أن النهي عن الوصال، إما نهي تحريم -وهو الصحيح- وإما نهي تنزيه.

والوصال هو ألا يأكل ولا يشرب يومين متتاليين، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، فقال: (لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ(رواه البخاري)، فأذن أن يواصل إلى السحر، ويأكل كل يوم أكلة واحدة في السحور، والحقيقة أن الوسطية هي الأمر المطلوب، أما أن يكون الإنسان يأكل كلما جاع، ويشرب كلما عطش، ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه طول السَّنة؛ فهذا أمر مذموم، ولا شك أنه سوف تغلبه نفسه.

وقد شرع لنا القيام لترك فضول المنام، فلم يكن مِن عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يحيي الليل كله دون أن ينام جزءًا منه طول السَّنة إلا في العشر الأواخر مِن رمضان، وذلك السهر خير وأوسط أنواع السهر الذي لا يغلب على الإنسان فلا ينام بالكلية فيحصل له الخلل في فكره وشعوره؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي(متفق عليه).

ولم يحرم الجماع بالكلية، ولكن حدَّد له وقتًا معينًا، وجعل الإنسان هو الذي يتحكم فيه، وفرض كفارة غليظة مشددة على مَن جامع عمدًا في نهار رمضان، بأن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا؛ فهذا التشديد حتى يستطيع التحكم في نفسه.

وشرع لنا مِن ترك فضول الكلام ما لا حاجة إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ) (رواه البخاري ومسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ(رواه مسلم). (يَرْفُثْ): لا يقول الرفث، وهو الفاحش مِن القول. (يَصْخَبْ): لا يصيح. (وَلَا يَجْهَلْ): لا يقول الكلام السفيه الجاهل.  

وشرع لنا مزيد التحفظ مِن الغيبة والنميمة، والزور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ(رواه البخاري)؛ ولذا فارتكاب الكبائر أثناء نهار رمضان يذهب بأجر الصيام، ويجعل الصوم غير مقبول؛ لأن الصوم شرع لتحقيق التقوى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ(البقرة:183)، فإذا ارتكب الكبائر أثناء صومه كان ذلك دلالة على أن صومه ليس هو الصوم المشروع؛ ولذا كان بلا ثواب وكان غير مقبول، ولم يكن لله حاجة في أن يَدع طعامه وشرابه.

ومَن يترك الصلاة مثلًا أو مَن تخرج متبرجة في نهار رمضان، أو مَن يسب ويلعن؛ فهذا مفطر بقلبه وإن لم يكن مفطرًا بفمه وبطنه، ولا ثواب له، وصومه غير مقبول، وإن كان يسقط عنه الفريضة ولا يؤمر بالإعادة؛ إلا أنه لا ثواب فيه، وإن جاع وعطش (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فعليك أن تكون منتبهًا لصومك، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ(رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، فإذا كنتَ تحفظ لسانك في سائر الأوقات؛ فليكن حفظك له في رمضان أشد.

وكذلك ترك فضول المخالطة: فالغرض مِن خلطة الناس تحصيل ما ينفع الخلق، فالخلطة مع أصحاب اللعب واللهو مِن أعظم الضرر، فهؤلاء يجر بعضهم بعضًا إلى المنكرات والفواحش مِن الإدمان والسرقة، والزنا، والتدخين، وخلطة الصالحين خير خلطة، وهي تقلل مِن الاختلاط بأهل الفساد، وقد أصبح الاختلاط في زماننا له مفهوم أوسع منه في الزمن الماضي، فقد صارت الخلطة مِن خلال وسائل الإعلام ولو كان في حجرة مغلقة "مِن المذياع والتلفزيون، وغيرهما"؛ فحاول أن تكون على مقاطعة تامة لوسائل الإفساد في رمضان، لتكون مهتمًا  بشغل نفسك بطاعة الله وبصحبة الصالحين، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، كما قال ربنا في العبد الخطاء الذي جلس مع الصالحين لحاجةٍ وهو ليس منهم، قال الله  -تعالى-: (وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)، فمجرد التواجد في المساجد مع أهل البر والتقوى والصلاح مِن أسباب السعادة والمغفرة، وحذار أن تجعل المساجد سبيلاً إلى الخلطة المحرمة مِن الرياء والسمعة، وطلب الوجاهة والمنزلة بيْن الناس، فهذا هو الخطر على إخواننا، وإنما تخالِط مَن يذكرك بالله، وتذكره بالله.

والاعتكاف: فرصة للخلوة، ومحاسبة النفس، ولذلك نقول: ساعة يراجع الإنسان فيها نفسه كل يوم "حاسبوا أنفسكم قبْل أن تُحاسبوا، وزنوها قبْل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"، وكما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(الحشر:18).

أما فضول الأموال: فقد شرع الله لنا في رمضان قدرًا واجبًا، وقدرًا مستحبًا؛ فشرع لنا مِن الواجب زكاة الفطر، وهي طهرة للصائم مِن اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشرع لنا الصدقة في رمضان، وأفضل الصدقة في رمضان كما في الحديث: "أفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةٌ فِي رَمَضان" (رواه الترمذي، وضعفه الألباني)، وإن كان فيه ضعف، لكن يشهد له ما في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أجود ما يكون في رمضان، وحديثَ: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، فعليكم بكثرة الإنفاق، خصوصًا في سبيل الله -عز وجل-.

ومِن النفقة المشروعة في رمضان: "النفقة في العمرة"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي(متفق عليه)، وهذه العمرة في رمضان تجمع كل أنواع تربية النفس وتزكيتها، فلا تعبأ كثيرًا بالمستوى الفاخر، وإنما فكر كيف ستكسر عادة النفس؟! لأن العمرة فيه فيها نفقة، وفيها تحكم في كل الرغبات والشهوات.

نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لما يحب ويرضى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.