الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 13 ديسمبر 2024 - 12 جمادى الثانية 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (190) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (6)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).

الفائدة الخامسة:

دعوة الحق تبدأ بهدم الباطل: فقد بدأ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعوة أبيه، بهدم الباطل الذي عليه أبوه، ولكن بأرق صيغة داعية إلى التفكير؛ وهي: صيغة الاستفهام: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا

وهدم الباطل أساس دعوة التوحيد "لا إله إلا الله"؛ فإنها براءة من الشرك وإثبات الألوهية لله وحده، وبدون هدم الشرك وعبادة غير الله لا يقوم التوحيد؛ فتبًّا لدعاة وحدة الأديان، ووحدة المعبودات، ووحدة الوجود!

إن هذه الدعوة التي يقوم عليها "الدِّين الإبراهيمي الجديد" الذي صنعه اليهود، هي دعوة لهدم دين إبراهيم الحق -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يكون من يعبد غير الله كمن يعبد الله؟! (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 35-36)، وقال -تعالى-: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: 28)، وقال الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية: 21).

ثم استعمل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الأسلوب العقلي الصحيح الموقِظ للفطرة الإنسانية من سُبات التقليد الأعمى؛ الذي يغلق العقل والفطرة معًا؛ فكيف تصح عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا عن عابده؟!

ومَن تأمل كلَّ المعبودات الباطلة حتى مِن غير الأصنام -كعبادة البشر- وجدها كذلك؛ فالجمادات: كالشمس والقمر، والأشجار والأحجار؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها ولا عن غيرها شيئًا، ولولا الضلالات والأوهام التي جعلوها اعتقادات راسخة؛ لأدرك كلُّ عاقل بطلان عبادتها، وأما الحيوانات والأشخاص فرغم أنها تسمع وتبصر في حال من أحوالها؛ إلا أنها مَرَّ عليها مرحلة النطفة، والعلقة، والمضغة، وما بعدها في مرحلة  الجنين؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها شيئًا؛ فضلًا عن غيرها، ثم في مرحلة الموت هي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن عابدها شيئًا، بل عن نفسها لا تملك دفع الموت عن نفسها؛ فلماذا يعبدها الإنسان الذي كرَّمه الله -عز وجل- بالعقل والفطرة، وأرسل إليه رسله ليخاطبوه بمقتضى هذا العقل، وهذه الفطرة.

فقول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا): بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، فإنما هو فقير؛ فكيف يغني الفقير عن غيره وهو في نفسه عاجز؟!

وهذه الجملة: (مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) متضمنة لإثبات صفات الكمال لله -عز وجل- السميع البصير، الغني الحميد؛ فتبيَّن أن ما يُعبَد من دون الله، لا يملك شيئًا؛ لا سمع ولا بصر، ولا يغني عن عُبَّاده شيئًا، وحتى البشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون؛ ليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط؛ لذا فالاعتقاد في الأموات كما يعتقد غلاة الصوفية الخرافيون: أن لهم السمع والبصر المحيط، وسؤالهم على ذلك، هو اعتقاد أنهم يرون ويجيبون، ويغنون عن المرء شئيًا؛ فهذا -والعياذ بالله- شركًا بالله العظيم في أسمائه وصفاته، وكذلك في ربوبيته، وسؤالهم إياهم: شرك في الإلهية، فيُقَال لهم: لِمَ تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنكم شيئًا؟!

فهذه الحجة تُقَال لجميع عُبَّاد القبور، وعباد الأشخاص، وعباد الأموات، وعباد الأوثان التي جعلت رموزًا لهذه الإلهة الباطلة؛ فهي نفس الحجة التي يجب أن نكرِّرها دائمًا عليهم؛ لو استحضرتها عقولهم لنفروا مِن عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئًا.

الفائدة السادسة:

قول الله -عز وجل- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): فيه شرف العلم، وأن شرفه عظيم؛ به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وقال -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76).

وقول إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): علاج لمرض ينتشر في كثيرٍ من الناس؛ أنهم لا يقبلون الحق من الصغير، أو ممَّن هو دونهم في السنِّ أو المنزلة، فإبراهيم -عليه السلام- يذكِّر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأتِه هو؛ فليست العبرة بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس.

وهنا أمر يستفيده المؤمن في دعوته إلى الله ليبيِّن للناس: أن الواجب اتباع مَن جاءه العلم مِن عند الله؛ الذي هو العلم بالوحي المنزَّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن كان عنده هذا العلم وجب اتباعه؛ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، كما كان عمر -رضي الله عنه- يدني القُرَّاء، وكانوا أصحاب مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشورته شيوخًا كانوا أو شبانًا، وكان منهم ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- رغم صغر سنه، وكان منهم الحر بن قيس -رضي الله عنه-، ولم يكن يقدِّم أحدًا لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌يَؤُمُّ ‌الْقَوْمَ ‌أَقْرَؤُهُمْ ‌لِكِتَابِ ‌اللهِ ‌فَإِنْ ‌كَانُوا ‌فِي ‌الْقِرَاءَةِ ‌سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) (رواه مسلم).

والتقديم بالسن فيما إذا استوى الإنسان مع غيره في الفضائل، وأما احترام الكبير؛ فهو واجب، لكن لا يلزم منه أن يكون متبعًا على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، ‌وَيَعْرِفْ ‌لِعَالِمِنَا ‌حَقَّهُ) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.