كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في كتابه: "العلو للعلي الغفار"، في معرض ذكره للأدلة الدَّالَّة على إثبات صفة العلو لله -عز وجل-: "وفي الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لقوم فقال: (أَكَلَ طَعَامُكُمُ الأَبْرَارُ وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ، وذَكرَكُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِندَهُ)".
قال الألباني -رحمه الله- معلقًا على هذا:
"هذا حديث صحيح، لكن ليس منه الزيادة التي في آخره: "وذَكرَكُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِندَهُ"، ولا هو في "الصحيحين" أصلًا، كما كنت نبهتُ عليه في كتابي: "آداب الزفاف" (ص 85، 86) طبع المكتب الإسلامي - الثالثة. وتجد تخريجه هناك بما لا تراه في غيره، والحمد لله على توفيقه.
وأزيد هنا فأقول: إن الزيادة المذكورة قد جاءت في حديث آخر يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)، أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما، وهو مخرج في كتابي صحيح أبي داود (1308)، فكأن المؤلف دخل عليه حديث في حديث". انتهى كلام الألباني.
وسوف أنقل تمام كلامه من "آداب الزفاف" في فقرة لاحقة -إن شاء الله-.
ويبدو أن هذا الوهم لم يختص به الذهبي -رحمه الله-، بل وقع فيه ابن الملقن أيضًا، حيث قال ابن طولون في كتاب: "فص الخواتم فيما قيل في الولائم":
"وقال ابن الملقن وغيره: ويستحب أن يدعو لصاحب الطعام إن كان ضيفًا فيقول: "أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة". انتهى. زاد البلقيني في الدعاء: (وذكركم الله فيمن عنده)، واعترضه بعض الحفاظ". انتهى.
ويبدو أن الأمر قد شاع فاتخذه بعض خصوم الألباني مادة للتندر، ورُفِع للألباني -رحمه الله- سؤال عنه، فاسترجع واستغفر، وسكت -رحمه الله تعالى-.
ثم إنه انتشر مقطع فيديو لأحد الشيوخ يمازح جلساءه بنفس هذه القصة، ولما كانت القصة تتعلق من جهةٍ بسُنَّة نبوية، ومن جهة بعالم جليل، أفنى عمره في نشر السُّنة؛ رأينا أن نتعرَّض لها بشيء من التحليل.
قال الشيخ المذكور:
إن رجلًا من أهل الله -(وهو أحد الألقاب التي تطلق على الصوفية)- قد دُعي إلى طعام عند جماعة من السلفيين، وهم يعظِّمون الألباني، فقال لهم: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، ولولا الألباني لذكركم الله فيمن عنده".
هذه تعليقات سريعة على القصة، وسأفترض أنها قصة حقيقية، وليست طُرفة لا حقيقة لها -كما هو ظاهر الكلام-:
1- هذه القصة تعكس روحًا سلفية شديدة التسامح، فمع شدة إنكار السلفيين على الانحرافات الصوفية، اتسعت صدورهم لكي يدعوا أحدهم إلى طعامهم.
وسوف أفترض أنه يوجد آخرون يكفِّرون المسلمين بلا مكفر، أو يكفرون مَن وقع منهم في الكفر متأولًا أو جاهلًا، ولكن ثبوت أن منهم مَن لا يفعل هذا، بل ويدعو المخالفين له إلى طعامه كان يقتضي إلغاء التعميم المتكرر في كلام الصوفية من وصف السلفيين بالشدة والغلظة، وتكفير المسلمين بلا مكفِّر.
2- لا أدري في أي موقع يقع سلوك هذا الرجل الصوفي؟ وأين تعلم؟ أفي الأزهر؟ فأين التسامح الذي يرفع الأزهر شعاره؟! والمسألة في غاية اليسر؛ نص دعاء سيدعو به مكافئًا لمَن أكرمه. ونحن نسمع أحيانًا دعوات للتقارب مع الشيعة، ودعوات ليس فقط لحسن المعاملة مع النصارى (فهذا مشروع)، ولكن ربما دعوات تتجاوز هذا إلى تمييع العقائد، لكنَّ الرجل الصوفي لم يُبدِ هذا التسامح في قضية أهون من هذا بكثير، بل ربما يذكرون في أدب الخلاف أن بعض العلماء ربما ترك إظهار مذهبه لضيفه أو مضيفه كنوع من الكرم.
كنت أتمنى لو أن هذا الرجل دعا لمضيفه بما يعلم أنه يعتقده سنة، أو يدعو هو بما يراه، أو يقول له: "حيث إنني أعتقد شرعية تلك الزيادة، فرجوت أن ينفعك الله بها"، أو حتى يقول: "ولولا أني أعلم أنكم تأخذون بمذهب الألباني في تضعيف زيادة: (وذكركم الله فيمن عنده) لأتممتها"، ولكن الرجل -الذي مِن أهل الله!- هذا عمد إلى تورية غير مستحسنة حينما قال: "ولولا الألباني؛ لذكركم الله فيمن عنده!".
سامحه الله (على فرط تسامحه وقمة صفاء نفسه!).
3- دعنا من الرجل الصوفي ولنأتِ إلى الشيخ الذي هو في مقام المعلِّم لمريديه! كنا نتمنى أن يحكي هذه القصة متأسفًا على حظِّ الشيطان الذي ناله من صاحِبِه، محذِّرًا باقي المريدين من هذا.
4- ثم نأتي لحق الدعاء والذِّكْر اللذين كان يقتضي تنزيههما أن يخلطا بمزاح كهذا.
5- ولعل الشاهد الفكري في الموضوع، هو: أن الألباني متشدد، وأن هذا التشدد ضيَّع على أتباعه خيرًا عظيمًا، وهو ما يمكن أن تروَّج به الكثير من البدع (على أن الزيادة على المأثور في الدعاء لن تكون بدعة؛ إلا إذا اعتقد صاحبها فضيلتها، أو واظب عليها كما هو الحال هنا).
تخريج الألباني لحديث الدعاء للمضيف:
قال الألباني -رحمه الله - في "آداب الزفاف": "وساق حديث سعد بن عبادة -رضي الله عنه- وفيه: (ثم أدخله البيت، فقرَّب له زبيبًا، فأكل نبي الله، فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون)"، وقال في تحقيقه: (رواه أحمد (3/ 138)، وأبو علي الصفار في حديثه (1/ 11)، والطحاوي في المشكل (1/ 498، 499)، والزيادات له، والبيهقي (7/ 287)، وابن عساكر (7/ 59، 60)، وإسنادهم صحيح، ولأبي داود منه (2/ 150)، وكذا ابن السني (رقم 476) الدعاء فقط، وصححه العراقي في التخريج (2/ 12)، وابن الملقن في الخلاصة، ومن قبلهما عبد الحق في "أحكامه" (2/ 194)، وعندهما جملة: "أفطر..." في أول الحديث، وكذا رواه ابن ماجه (1/ 531)، والطبراني (2/ 204/ 69)، والخطيب في الموضح (2/ 72) من حديث مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال: "أفطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند سعد بن معاذ"، فقال: فذكره، لكن مصعب هذا ضعيف كما قال البوصيري في (الزوائد)".
ثم قال: "(تنبيه): عزا الذهبي في "العلو" (ص 63 - طبع الأنصار) هذا الحديث لـ"الصحيحين" بزيادة في آخره: "وذكركم الله فيمن عنده"، وكل ذلك وهم؛ فليس هو في الصحيحين، ولا فيه هذه الزيادة في شيء من طرقه التي وقفتُ عليها". انتهى.
ومن هذا ترى دقة الألباني -رحمه الله- في تخريجاته واستيعابه إلى حدٍّ كبير لطرق الحديث (وكان هذا قبل عصر الكمبيوتر، وهذا مما زاد إصقال ذهنه -رحمه الله-).
إذًا، فليست تلك الزيادة: "وذكركم الله فيمن عنده" صحيحة في بعض طرق الحديث، فحرمنا الألباني منها بتشدده!
ولا رويت بإسناد قابل للتحسين!
ولا رويت بإسناد أصلًا!
وإنما هي "لا أصل لها"، فهي كلام وُجِد في كتب الفقه أو الأذكار منسوبًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم نجدها مسندة في أي مرجع البتة، وهو مما لا تنطبق عليه شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين بها.
حتى لو كان لها أصل -ولا يصح-؛ فلا يتوهمن أحدٌ أن زيادة الدعاء بشيء من الخير قد زاد ثوابًا وفضلاً عن المشروع؛ لأن من يقول هذا قد أغفل ثواب العبودية والالتزام التام بها.
وقد عَلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- البراء بن عازب -رضي الله عنه- دعاء النوم، وهو: (إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلَامِكَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ) قَالَ: فَرَدَّدْتُهُنَّ لِأَسْتَذْكِرَهُنَّ، فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: (لَا، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) (متفق عليه).
فالبراء -رضي الله عنه- لما كرَّر الدعاء قال: "آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
وذكر ابن حجر -رحمه الله- في الفتح احتمالاتٍ لسبب حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على التصويب، ثم ختمها بقوله: "أولى ما قيل في الحكمة في ردِّه -صلى الله عليه وسلم- على مَن قال "الرسول" بدل "النبي": أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردتْ به، وهذا اختيار المازري؛ قال: فيُقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلَّق الجزاء بتلك الحروف، ولعلّه أوحي إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها".
فتلك الزيادة لو واظب عليها صاحبها تدخل في البدع، وإن فعلها عرضًا يصيب من ورائها خيرًا، ولكن يفقد أمامها ما هو أعظم منه بكثير.
فرحم الله الألباني؛ كم بيَّن من سُنَّة ورد من بدعة، ومهَّد للناس طريق اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.