كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالعزة: حالة مانعة للإنسان أن يُغلَب، من قولهم: أرض عزاز، أي: صلبة. والعزيز: الذي يَقْهَر ولا يُقهَر.
والعزة التي لله -تعالى- ولرسوله وللمؤمنين هي العزة الدائمة الباقية، هي العزة الحقيقية؛ قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر: 10)، أي: مَن كان يريد أن يعز يحتاج أن يكتسب من الله -تعالى- العزة، فإنها له.
وقال الله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26).
ويقال عزَّ عليَّ كذا: أي: صعب علي. وعزَّه كذا: غلبه. قال -تعالى-: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (ص: 23)، أي: غلبني. وقيل: صار أعز مني في المخاطبة والمخاصمة. وقال الله -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (فصلت: 41)، أي: يصعب مناله ووجود مثله.
أما العزة التي هي للكافرين؛ فهي بمعنى التعزز. قال الله -تعالى-: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (مريم: 81)، أي: ليتمنعوا به من العذاب.
وقد تستعار العزة للحمية والأنفة المذمومة، كما في قوله -تعالى-: (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (البقرة: 206).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتقِ الله، وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق؛ امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم؛ أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي: هي كافيته عقوبة في ذلك" (تفسير ابن كثير).
وقال الله -تعالى-: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (ص: 1، 2).
قال ابن كثير: "وقوله -تبارك وتعالى-: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أي: إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون؛ لأنهم (فِي عِزَّةٍ) أي: استكبار عنه وحمية. (وَشِقَاقٍ) أي: مخالفة له ومعاندة ومفارقة" (تفسير ابن كثير).
العزة جميعها لله وحده ولا تطلب إلا من جهته:
قال الله -عز وجل-: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات: 180).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينزِّه -تبارك وتعالى- نفسه الكريمة ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، -تعالى- وتنزَّه وتقدَّس عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ ولهذا قال -تبارك وتعالى-: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) أي: ذي العزة التي لا ترام. (عَمَّا يَصِفُونَ) أي: عن قول هؤلاء المعتدين المفترين" (تفسير ابن كثير).
وقال الله -تعالى-: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء: 138، 139).
قال ابن كثير في قوله -تعالى-: "(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ): ثم أخبر الله -تعالى- بأن العزة كلها له وحده لا شريك له، ولمن جعلها له، كما قال -تعالى- في الآية الأخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، وقال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). والمقصود من هذا: التهييج على طلب العزة من جناب الله والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين؛ الذين حصل لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" (تفسير ابن كثير).
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: "والحال أن العزة لله جميعًا؛ فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين. وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين وترك موالاة المؤمنين وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم" (انظر: تيسير الكريم الرحمن).
وقال الله -تعالى-: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يونس: 65).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- لرسوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن العزة لله جميعًا، أي: جميعها له ولرسوله وللمؤمنين. (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي: السميع لأقوال عباده، العليم بأحوالهم" (تفسير ابن كثير).
قال الله -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: مَن كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فيلزم طاعة الله -تعالى-، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله -تعالى- مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعًا، كما قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقال -عز وجل-: (وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقال جل جلاله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). قال مجاهد: من كان يريد العزة بعبادة الأوثان، فإن العزة لله جميعًا. وقال قتادة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)؛ أي: فليتعزز بطاعة الله -عز وجل-" (تفسير ابن كثير).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "أي: يا من يريد العزة اطلبها ممن هي في يده، فإن العزة بيد الله، ولا تنال إلا بطاعته. وقد ذكرها بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)، من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل، وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى الله ويعرض عليه، ويثني الله على صاحبه في الملأ الأعلى. (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، يرفعه الله -تعالى- إليه أيضًا كالكلم الطيب. وأما السيئات فإنها بالعكس؛ يريد صاحبها الرفعة بها، ويمكر ويكيد، ويعود ذلك عليه، ولا يزداد إلا هوانًا ونزولًا، ولهذا قال: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) يهانون فيه غاية الإهانة. (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي: يهلك ويضمحل، ولا يفيدهم شيئًا، لأنه مكر بالباطل لأجل الباطل" (تفسير السعدي).
وقال الله -تعالى-: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ . لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 7، 8).
وقد نزلت هاتان الآيتان أثناء رجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من غزوة تبوك، حيث قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالمدينة هذه المقالة الشنيعة؛ فردَّ الله -تعالى- عليه قوله، وبيَّن أن العزة الحقيقية الدائمة كلها إنما هي لله -تعالى-، ومنه يستمد المؤمنون الملتزمون بشرعه وأحكامه عزتهم.
من كمال العزة تجنب الوهن والاستكانة:
من كمال عزة المؤمن أنه لا يقبل الوهن والضعف والاستكانة، بل يستعين بالله -تعالى- دائمًا ولا يعجز، ويتوكل على الله -تعالى- ولا ييأس، ويصبر على الصعب ولا يجزع، ولا يقصر في طلب ما يجب عليه، وهو يعلم أن الله -تعالى- بفضله وكرمه يجبر عجزه إن وجد، ولكن لا يجبر له تقصيره إن وقع فيه، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو المستعان وعليه التكلان؛ قال الله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).
وقال الله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104).
قال ابن كثير: "وقوله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ)، أي: لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد. (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ)، أي: كما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، كما قال -تعالى-: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ). ثم قال -تعالى-: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)، أي: أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو وعد حق وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئًا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلائها. (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي: هو أعلم وأحكم فيما يقره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال" (تفسير ابن كثير).
وقال الله -تعالى-: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35). قال ابن كثير: (فَلَا تَهِنُوا) أي: لا تضعفوا عن الأعداء (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)؛ أي: المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعدتكم؛ ولهذا قال: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ)، أي: في حال علوكم على عدوكم؛ فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة؛ فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صدَّه كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك.
وقوله جلت عظمته (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) فيه بشرى عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء، (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها، ولا ينقصكم منها شيئًا، والله أعلم" (تفسير ابن كثير).
ووصف الله -تعالى- حال الأمم المؤمنة السابقة مع أنبيائهم في هذا الشأن فقال الله -تعالى-: (وَكَمْ مِن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رَبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 146-148).
والمراد كم من نبي قاتل وقُتِل بين يديه جموع كثيرة من أتباعه من العلماء والصالحين، فما وهن من بقي منهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما ذلوا له، وما استكانوا، حتى إن قُتِل نبيهم أو قُتِل منهم الكثير، بل صبروا وثبتوا رغم ما أصابهم في الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وتحملوا دفاعًا عن دينهم. بل كانوا على تمام العبودية لله -تعالى- باللجوء إليه والعمل في مرضاته، يخافون التقصير في جنب الله -تعالى-، وتتعلق قلوبهم به في النصرة والتثبيت: (وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، فجمع الله -تعالى- بين خيري الدنيا والآخرة؛ قال الله -تعالى-: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ).
موقف في السيرة النبوية تتجلى فيه معاني العزة:
رغم الهزيمة القاسية التي تعرَّض لها المسلمون يوم أُحُد على يد كفار قريش، فقد احتفظ المسلمون بكامل عزتهم، ولم يصبهم الضعف والوهن وهم في أصعب الظروف وأسوأها.
وقد نقل ابن القيم في (زاد المعاد) هذا الموقف الفريد للطائفة المؤمنة عقب انتهاء المعركة فقال: "ولما انقضت الحرب، أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذي ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسؤك. فقال: إن في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: اعلُ هبل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا تجيبوه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
فأمر -أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوابه عند افتخاره بآلهتهم وبشركه، تعظيمًا للتوحيد، وإعلامًا بعزة من يعبده المسلمون، وقوة جانبه، وأنه لا يغلب، ونحن حزبه وجنده. ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ بل روي أنه نهاهم عن إجابته، وقال: لا تجيبوه؛ لأن كلمهم (جرحهم) لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم متوقدة. فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت يا عدو الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون ألا يخافهم المسلمون، وقد أبقى الله لهم ما يسؤهم.
وأيضًا فإن في تركهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة -بعد وهلة وظن قومه أنهم قد أصيبوا- من المصلحة وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده، فصبر له النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى استوى في كيده، ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه، وكان ترك الجواب أولًا عليه أحسن، وذكره ثانيًا أحسن.
وأيضًا فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيرًا لشأنه، فلما منته نفسه موتهم، وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له من الكبر بذلك والأشر ما حصل، كان جوابه إهانة له وتحقيرًا، ولم يكن مخالفًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تجيبوه، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولًا، ولا أحسن من إجابته ثانيًا. ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، فأجابه عمر فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (انظر: زاد المعاد).
وروى الإمام أحمد: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي) فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الْحَرْبِ، اللَّهُمَّ عَائِذًا بِكَ مِنْ سُوءِ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ مِنَّا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسَلَكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). (انظر: الرحيق المختوم).