الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 24 أكتوبر 2024 - 21 ربيع الثاني 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (184) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (13)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ ‌حَنِيفًا ‌وَلَمْ ‌يَكُ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).

الفائدة الثانية عشرة:

قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دَلَّ على أن مَن أحيا ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في الناس هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قَلَّ تابعوها حتى كادت أن تندثر، وإنما كان عليها آحاد من الناس: كزيد بن عمرو بن نوفيل الذي كان يقول لقومه: لا أعلم أحدًا على ملة إبراهيم غيري.

ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه زيد بن عمرو بن نوفيل -وساق سنده عن عبد الله بن عمر-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ‌لَقِيَ ‌زَيْدَ ‌بْنَ ‌عَمْرِو ‌بْنِ ‌نُفَيْلٍ ‌بِأَسْفَلِ ‌بَلْدَحٍ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ.

قَالَ مُوسَى: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا تُحُدِّثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا، حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللهِ، قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.

قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْؤُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا" (انتهى ما ذكره البخاري).

وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: "سمعت زيد بن عمرو بن نوفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، إياكم والزنا؛ فإنه يورث الفقر... وعن جابر قال: سُئِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن زيد بن عمرو بن نوفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى ابن مريم. إسناده جيد حسن، وروي من طرق متعددة أنه قال يبعث يوم القيامة أمة وحده" (البداية والنهاية).

فهذه الآثار تدلك على حال التوحيد والحنيفية، وملة إبراهيم، وغربة الدِّين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ظهر الحق كالشمس وأجلى ببعثته -عليه الصلاة والسلام-، وظهر نور الله، وعادت الحنيفية إلى الانتشار في الناس وترك الشرك بحمد الله -تعالى-؛ حتى وصل إلينا كما أنزله الله.

وتأمل أن اليهودية والنصرانية ليست ملة إبراهيم الحنيفية: قال الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، بعد أن بدَّلوا وغيَّروا ولم يبقَ منهم على التوحيد قبل البعثة النبوية إلا قِلَّة قليلة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ ‌عَرَبَهُمْ ‌وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم).

أما الآن فلم يعد أحد منهم موحِّدًا ولا حنيفًا؛ إذ بلغهم خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذَّبوه وكذبوا القرآن؛ فلا تصح لهم نسبة إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى ما أشركوا وعبدوا غير الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30، 31).

فأما تسميتهم ضلالهم الحالي بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"؛ فهو زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا، وكيف يكون دين إبراهيم فيه الإقرار بالشرك وملل الوثنية، وتكذيب الأنبياء، وتكذيب كلام الله القرآن العظيم؟!

وقد أكَّد الله -عز وجل- براءة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الشرك مرة ثانية، فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ لنعرف أهمية البراءة من الشرك وأهله حتى يصح لنا ديننا؛ دين إبراهيم دين الإسلام، ولا يصح أبدًا مع الإقرار بالشرك وتصويب الملة؛ فالدعوة إلى دين واحد وملة واحدة تجتمع فيها اليهودية والنصرانية والإسلام، وأيضًا البوذية والهندوسية، وأنواع الشرك والضلالات؛ كما يقولونه في الطرق الصوفية العالمية، وغيرها، ممَّن يقول بمساواة الديان ووحدة الوجود؛ فهذا كله من الكفر الأكبر المستبين.

فلا يصح لأحدٍ دين الإسلام إلا بالبراءة من هذه الملة الجديدة القديمة، برأنا الله -عز وجل- منها، ونجَّانا من شرِّها.