كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة العاشرة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيه: بيان نوع آخر عظيم من أنواع الهداية؛ وهي: هداية التوفيق والإسعاد، وهي خلق الله الهدى في قلب مَن شاء مِن عبادة بدرجات الهدى المختلفة، وهي تشمل هداية معرفة الحق وقبوله ومحبته، وإرادته والعزم عليه وفعله والثبات والاستمرار على ذلك، والدعوة إليه والصبر على مشاق الطريق.
فكم من أناس قامت عليهم الحجة الرسالية ثم يعرفوا الحق من الباطل، وكانوا صمًّا بكمًا عميًا؛ لا يعقلون ولا يفهمون؛ قال الله -عز وجل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 22، 23)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد: 16).
ثم كم مِن الناس ممن عرف الحق وفهمه، لكنه أعرض عنه ولم يجبه ولم يقبله، بل أبغضه وعاداه؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146)، وقال -تعالى- عن المشركين: (إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، وقال -تعالى- عن آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14).
ثم كم ممَّن عرف الحق وأحبه وقبله، لكنه ضعيف الحب؛ فغلبته إرادة الشهوات والإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى!
وكم من مبغض للباطل والمعصية والحرام، لكنه لا يستطيع أن يقاوم إرادته والرغبة فيه ولو كان محرمًا؛ فيكون كالطائر الذي نتف ريشه يحلم بالطيران، ولا يستطيع أن يطير!
ثم كم من مريد للحق محبٍّ له، لكن عزمه ضعيف، فإرادته غير مستقرة لم تبلغ درجة العزم الذي يُثَاب صاحبه ثواب الفاعل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن أتاه الله مالًا وعلمًا: (فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ؛ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) (متفق عليه).
فمِن الناس مَن عنده إرادة ومحبة لا يستمر عليها، حتى تصل إلى درجة العزم، ثم كم ممن عنده العزم ثم يحرم من الفعل لنقض العزائم، والعجز والكسل، وتأمل في قصة كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في قوله: "فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي" (رواه مسلم).
ثم كم من عازم قد فعل الخير وترك الشر والحرام، ثم يثبته الله عليه؛ فبعد فعله لم يستمر على الخير فتركه، وعاد ففعل الحرام والمنكر، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الفساد بعد الصلاح؛ قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266).
ثم كم من فاعل للخير مجتنب للشر ثابت على ذلك، لكنه لا يستشعر مسؤولية الدعوة إلى ذلك الخير وإبلاغ الحق للخلق، ثم تحمل الأذى والصبر عليه؛ فكم ممَّن يقول: آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، فإن مشاق الطريق وصعوباته وتضحياته قد تدفع كثيرًا من الناس إلى الابتعاد بعد القيام بالعمل بعد العلم، وبالدعوة بعد العمل، ولكن الفتنة؛ نعوذ بالله منها.
وقد جمع الله -عز وجل- لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كلَّ أنواع الهداية هذه، ومن بعده الأنبياء جميعًا؛ قال الله -عز وجل-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90).
وقد جمع الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- من بعد إبراهيم في الزمان ما هو أكمل أنواع الهدايات التي لم يسبقه إليه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، والأنبياء جميعًا؛ فكان سيد الناس يوم القيامة ولا فخر؛ قال الله -عز وجل-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (الفتح: 1، 2).
وكل هذه الهدايات يخلقها الله بمشئيته وقدرته في قلب مَن أراد مِن عباده ويوفِّق العبد لفعلها بقلبه ولسانه وبدنه، ثم خاتمة الهدايات: الهداية إلى منازل الجنة إذا دخلوها؛ قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا) (متفق عليه).
نسأل الله أن يجعلنا من أهل هدايته وتوفيقة وإسعاده.