الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 يونيو 2024 - 24 ذو الحجة 1445هـ

مؤسسة تكوين الفكر العربي (6) "يوسف زيدان" يقدِّم لنا دينًا يدافع عن إبليس.. وثورة تستلهم اغتيالات الحشاشين!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنخصِّص هذه المقالة من "سلسلة الرد على مؤسسة تكوين الفكر العربي"؛ لبيان مدى خطورة فكر الدكتور "يوسف زيدان" على الأمة، وهذا يرجع لكونه أبرز الأسماء في مجلس أمناء تكوين، كما أن فكره يتضمن عناصر شديدة الخطورة على الدِّين والدولة؛ فأما الدين: ففلسفته كلها هدم لأركان الدين -كما سيأتي إن شاء الله-.

ولكن المفاجأة التي لم أكن أتوقعها عند يوسف زيدان؛ أن أجد منه كل هذه العداء للدولة والمجتمع! وسوف ألخِّص ما وقفتُ عليه من مواقف:

1- يوسف زيدان له أربعة كتب، جمع في كلٍّ منها مجموعة مقالات عالج فيها الشأن المصري، معظمها كانت بعد ثورة يناير، وبعضها كُتِب قبلها، وهي: كتاب "دوامات التدين"، وكتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، وكتاب "متاهات الوهم"، وكتاب "فقه الثورة". وفيها الكثير من آرائه الصادمة في يتعلق بأمر الدين والدولة.

وإن كانت كتبه التي روَّج فيها لفكر وحدة الوجود، ومنها رسالته التي نال بها درجة الماجستير عن "عبد الكريم الجيلي" أكثر خطرًا من الناحية الدينية -كما سنبيِّن إن شاء الله-.

قال يوسف زيدان في كتابه "دوامات التدين"، في الفصل المسمى: "الحشاشون وابتداؤهم في مصر": "عندما اندلعت الثورة المصرية، رأيتُ من المناسب أن أخصص جلسات الصالون الشهري -الذي أعقده يوم الأربعاء الأول من كل شهر بساقية الصاوي بالقاهرة، ويحضره مئات من الشباب- لمناقشة الخبرات الثورية في تراثنا المصري والعربي؛ سعيًا لفهم أعمق بطبيعة الثورات، وأملًا في استخلاص العِبَر من خبر من غبر. وفي اليوم المخصص لندوة (ثورة الحشاشين ونظام الاغتيالات)..." (دوامات التدين، ص 161).

ولا أدري ماذا قال زيدان في هذه الندوة، وإن كانت طريقة صياغته للقصة تقول إنه اعتبر اغتيالات الحشاشين خبرة ثورية! ولكن الحق أن كتبه الأربعة التي أشرتُ إليها تضمنت "تثويرًا" واضحًا، ولكنها لم تتضمن دعوة للاغتيالات.

2- طعنه في صلاح الدين لصالح الدولة الفاطمية، وما في هذا من مؤازرة لأطماع الرافضة في مصر، ومِن قتل روح الرغبة في تحرير بيت المقدس؛ فيقول في كتابه "دوامات التدين": "وقد استمرت الدولة الشيعية الإسماعيلية (الفاطمية) في حكم مصر من سنة 358 هجرية حتى أسقطها سنة 567 هـ صلاح الدين الأيوبي، الذي تنمس على الخلافة الفاطمية وصار وزيرًا لهم، ثم انقلب عليهم وعلى نور الدين محمود، وأسس الدولة المعروفة في تاريخ مصر والشام بالدولة الأيوبية، التي ابتدأها بجريمة ضد الإنسانية حين حبس الرجال (الفاطميين) عن النساء (الفاطميات)، ومنع تزاوجهم مع بعضهم، أو مع الآخرين، حتى انقرضوا بالوفاة ولم يبقَ منهم أحد... وبالطبع فالمقررات الدراسية عندنا لا تذكر هذا الأمر إطلاقًا، وإنما تحتفي بصلاح الدين الأيوبي؛ لأنه حَرَّر القدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ هجرية، ولا تقول: إن أخاه (العادل) عاد وسلَّمها لهم كهدية، سنة 628 هجرية!" (دوامات التدين، ص 158، 159).

ولا أجد نموذجًا من قلب الحسنات سيئات كفعل زيدان مع القائد صلاح الدين -رحمه الله تعالى-!

فأما عزل الرجال الفاطميين عن النساء الفاطميات، فلا أدري: ما الإجراء الأخف من هذا مع قوم وصفهم زيدان نفسه بالتآمر، وسفك الدماء؟!

وأما الانتقاص من صلاح الدين من أجل شيء لم يفعله هو، بل ولا فُعِل في حياته؛ فهو يبيِّن لنا أن: "شعار التسامح" الذي تزعم مؤسسة تكوين أنها ترفعه؛ إنما هو تسامح مع أعداء الأمة من كل صوب، لكن مع رموز الأمة فلا تسامح مع الأخطاء إن وُجِدت، بل بهتان وعدوان، ومحاكمة الواحد بفعلٍ فَعَله غيره بعد وفاته!

3- وفي كتابه "متاهات الوهم" يردد يوسف زيدان أكاذيبه حول صلاح الدين، ويزعم أن هذا هو التاريخ الصحيح، وأن تزييف التاريخ جاء من فيلم الناصر صلاح الدين؛ ولذلك سَمَّى الفصل الذي تعرَّض له لهذا الوهم التاريخي بزعمه: "الناصر أحمد مظهر".

ومن عجيب ما جاء فيه أنه قال: "بداية.. لم يكن صلاح الدين هو ذلك (البطل) الذي تم الترويج له في زمن حكم العسكر، لأنه كان مثلهم عسكريًّا، فالتاريخ يخبرنا بحقائق مغايرة عما عرفناه من فيلم الناصر..." (متاهات الوهم، ص 22).

4- وأما كتابه "فقه الثورة"، فهو نموذج لكاتب رافض تدخل الجيش (العسكر وَفْق تعبيره)، وفي ذات الوقت يعتبر الديموقراطية التي تأتي بالإسلاميين ديموقراطية عمياء، ولا يكاد يعترف من نتائج الانتخابات إلا بالأصوات التي أعطيت لحمدين صباحي؛ رغم أنها لم تدخله انتخابات الإعادة!

وفي الواقع فإن الرجل الذي كان يشغل موقعًا مرموقًا في مكتبة الإسكندرية (ومعلوم مَن الذي كان يشرف على تعيينات المناصب القيادية في المكتبة قبل ثورة يناير)، قد ارتدى فجأة ثوب الثوري الاشتراكي، وأظنه الآن قد عاد لخلع هذا الثوب -فيما أظن-؛ فلنترك آراءه السياسية، ولنستعرض الجانب الأخطر من منهجه، وهو دفاعه عن صوفية وحدة الوجود، ولكن هذا يقتضي شيئًا من الإلمام بتاريخ هذه الدعوية المارقة.

يوسف زيدان والدفاع عن فكرة وحدة الوجود:

ليوسف زيدان سقطات دينية كثيرة متناثرة، ولكن يبقى خطؤه الأبرز الذي أعد فيه دراسات عليا، وكتب فيه كتبًا ونافح عنه بطرق متعددة، هو: دفاعه عن فكرة وفلسفة وحدة الوجود!

ولستُ أعني هنا الدفاع عن أسماء تنادي بهذا الباطل؛ لأنه حينئذٍ قد يتبادر إلى الذهن أنه قد يكون ممَّن دافع عن هذه الأسماء من خلال نفي صدور هذا الباطل عنهم، وهو توجه حديث عبر التاريخ، إلى درجة أن الهجويري (ت 582 هـ) في كتابه "كشف المحجوب"، اضطر لكي يجمع بين ما نُقِل له من كلام للحلاج مستحسن، ومن كلام آخر كفري أن يقول: إنه كان هناك رجلان يحملان اسم الحلاج، وهما: محمد بن الحسين الحلاج، ومحمد بن الحسن الحلاج!

المهم أن الدفاع عن أسماء هؤلاء بنفي الفكرة عنهم قد يُقبل فيه الأخذ والرد، وهو أمر فعله الكثيرون؛ منهم: السيوطي، ومنهم شيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود، ولكن يوسف زيدان شأنه شأن كثير من الذين درسوا على أيدي المستشرقين، يدافع عن فلسفة وحدة الوجود ذاتها، بل ويؤكد أنه يعرف تمامًا لوازم تلك الفلسفة؛ من الاعتذار عن إبليس، وقبول كل الملل، وزعم أن عذاب النار عذوبة على أهلها، وهذا ما سنبينه -بإذن الله- بعد أن نلقي نظرة سريعة عن نشأة يوسف زيدان.

نشأة يوسف زيدان:

نشرت المصري اليوم في 28-05-2016 حوارًا مع الدكتور يوسف زيدان، كان من جملة ما ذكره فيه علاقته بالصوفية، فذكر أن أباه من سوهاج وأمه من الإسكندرية، وأن أباه طلَّق أمه فأخذته أمه عند أبيها في الإسكندرية، واشترط جده لأمه على أبيه ألا يزور الصعيد إلا بعد دخوله الجامعة، وكانت أول رحلة له للصعيد مع أبيه استغرقت شهر رمضان كله؛ لأن أباه كان ينزل به في كل مدينة فيها قبر لكي يزوره ويتبرك به (وإن كان ذكر أنه لم يكن مطمئنًا إلى ذلك).

ثم بيَّن أنه في النهاية ارتبط بالصوفية، فقال: "تعمقت علاقتي بالصوفية مع شاعر الصوفية ابن الفارض الذي وقعت أشعاره في قلبي موقعًا خاصًّا. وفي سن 22 عامًا نشرت كتابي الأول: (المقدمة في التصوف)، ثم اكتملت علاقتي بالصوفية بالتأمل والدراسة؛ فأعددت الماجستير عن الصوفي عبد الكريم الجيلي، ثم الدكتوراة وعمري 29 عامًا عن الإمام عبد القادر الجيلاني".

وقد ذكر في كتابه "دوامات التدين" اقترابه في آخر سنوات دراسته في الكلية من التيارات الدينية الأخرى، وهذا يعني سنة 1978 أو 1979، وذكر أنه لم يعجبه التيار (وواضح أنه منذ احتكاكه الأول لم يستطع تمييز الفروق الفكرية بين تيار ما عُرِف حينها بالجماعة الإسلامية الطلابية).

ويمكننا القول: إنه كتب رسالته في الماجستير بصفته شخص يحب الصوفية وإن لم يكن متصوفًا (أظنه يعني أنه يحب الفكر الصوفي في تفسير الكون والحياة، ولا يحب ما في الصوفية عمليًّا من التعلق بالقبور؛ فضلًا عن الرقص، وغيره).

تاريخ التصوف كما استعرضه يوسف زيدان:

ليوسف زيدان سلسلة مقالات صحفية بعنوان: "الرؤية الصوفية للعالم"، وكانت المقالة السادسة منهم بعنوان: "القول السادس في اصطدام المعنى باللفظ واحتدام الشطح"، تعرض فيها لمجمل تاريخ التصوف، فمن ذلك:

1- قال زيدان ما ملخصه: لم يشهد القرن الهجري الأول أي مشكلات تتعلق بالتعبيرات والأقوال الصوفية؛ لأن (التصوف) ذاته لم يكن آنذاك قد تشكل قوامه في هذا الوقت المبكر من حياة المسلمين.

2- قال زيدان ما ملخصه: لما انتصف القرن الهجري الثاني وتأسست الدولة العباسية ثم استقرت في عاصمة الخلافة (بغداد)، وأقرت بعد حين من استقرارها مظاهر ترف وبذخ ولهو، لم يكن للمسلمين بها سابق عهد، عاهد الزهاد المسلمون أنفسهم على التوغل في آفاق التجربة الروحية، وكأنهم يعيدون (التوازن) الذي اختل مع الغرق العباسي في الملذات.

(قلتُ: يوسف زيدان يسير على خطى المستشرقين في إعطاء العامل السياسي دورًا كبيرًا في المجال الفكري، ولكن يمكن أن نقول: إنه تسرب شعور بأن الزهد لا يأخذ درجة الاهتمام اللائقة به).

3- قال زيدان ما ملخصه: مع نهاية القرن الهجري الثاني ودخول القرن الثالث، كانت ملامح (التصوف) قد راحت تتحدد شيئًا فشيئًا، وصارت التجارب الروحية تنتظم في أُطر معترف بها في المجتمع الإسلامي، بل مُرحَّب بها ومندوب إليها، على اعتبار أنها المعبر الأول عن صفاء الإيمان، وصدق التدين، وحقيقة الولاية.

(قلتُ: قد تتوهم من قوله: (صفاء الإيمان، وصدق التدين، وحقيقة الولاية) -وكلها ألفاظ توحي بأن ثمة مرجعية تبيِّن الصادق من الكاذب- أن المقصود هو الالتزام بالكتاب والسنة ونصوص الوحيين الشريفين، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الصوفية لا سيما الفلسفية يرون أن التجربة الروحية تشرق على النفس معرفة، ويعتبرون هذا مصدرًا للمعرفة مستقلًا عن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل ويمكن اعتبار أنهم يرون أنهم يأتيهم وحي خاص، ثم تتدرج بهم التجربة ليكتشف القائلون بوحدة الوجود -أو ليكشفوا لنا-: أن التعمق أكثر في التجربة سوف يكشف لنا حقيقة واحدة في زعمهم، وكل ما عداها خيالات، وهي: أن كل هذه المخلوقات هي -والعياذ بالله- ذات الله، أو تختلف عنه اختلافًا ذهنيًّا فقط، مثل الاختلاف بين البحر وأمواجه، والثلجة ومائها!).

4- قال زيدان ما ملخصه: وفي ذاك الزمان، ظهر أولياء الله فأوقفوا حياتهم على محور الروح، وانجذبوا بقلوبهم نحو الرحاب الإلهي، وهجروا الدنيا قلبًا وقالبًا، فلما حدقوا في مرآة نفوسهم، وقد تجلت على صفحتها آيات (الذات الإلهية) عبر تجليات لا يبلغها الإحصاء، صارت للصوفية مشاهدات خاصة، ورؤى روحية، استقلوا بها عن بقية المسلمين.. وأرادوا التعبير عن أحوالهم هذه، بالمعتاد من المفردات، فشطحوا!

(قلتُ: الاعتراف بأنهم استقلوا عن بقية المسلمين كافٍ لكلِّ عاقل لإثبات أن هذا باطل، قال الله -تعالى-: (‌وَمَنْ ‌يُشَاقِقِ ‌الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 115).

(قلتُ: وأما دعوى عجز اللغة عن الوفاء بمراد الصوفية، فنوع من التقية لجأ إليها بعضهم في أن يقول كلامًا كالهذيان ليدعي الجنون متى حوكم به؛ وإلا فقد تخصص أناس في فهم كلام الصوفية وشرحه وتفسيره، وأخذوا فيه شهادات الماجستير والدكتوراة، ومنهم يوسف زيدان نفسه).

5- قال زيدان ما ملخصه: وقد شهد القرن الثالث الهجري، والرابع أيضًا كثيرًا من شطحات الصوفية وعباراتهم الغريبة الدالة على أنهم يستعملون اللغة العادية، للتعبير عن رؤى غير معتادة وغير معترف بها عند أهل زمانهم، وقد اشتهر بالشطح واحد من كبار الأولياء في القرن الثالث الهجري، هو البسطامي (أبو يزيد، طيفور بن عيسى، المتوفى 261 هجرية)، الذي نَقَل عنه المؤرخون عجائب العبارات، وبدائع الشطحات، التي سنذكر طرفًا منها بعد قليل.

(قلتُ: الأزمة ليست في اللغة، فقول البسطامي: "سبحاني سبحاني ما أعظم شاني!"، كلام عربي دال على معنى، وهو: أنه يدعي الألوهية! ولكن حمل هذا على أنه غلبه الفناء في استحضار الله، فتكلم بضمير المتكلم، ومقصده الإخبار عن الله -تعالى-، هو أيضًا كلام لغوي بَيَّن المعنى الذي قيل إن أبا اليزيد كان يقصده، وهذا يدل على أن الفقهاء الذين لا يفتأ زيدان وشيعته أن يلمزوهم بضيق الأفق، مارسوا أعلى درجات الصبر والنصيحة والعلاج، مع هؤلاء وغيرهم، وسيظهر هذا جليًّا حينما يأتي على ذكر الحلاج بعد قليل).

6- قال زيدان ما ملخصه: ولم ينقم معاصرو البسطامي عليه بسبب شطحاته، لكنَّ معاصري الحلاج قتلوه بسبب شطحه، قتلة شنيعة -أو حسبما أشرتُ في مقالي السابق-؛ فقد قتله حكام وفقهاء زمانه لأسباب سياسية، متعللين في ذلك ومعللين له، بما روي عن الحلاج من (شطحات) كقوله: ما في الجبَّة إلا الله! وقوله شعرًا:

مزجت روحك روحي كما            تمزج الخمر بالماء الزلال

ويدل على أن مقتل الحلاج لم يكن في الحقيقة بسبب شطحاته، أن معاصره وصديقه (الشبلي) رويت عنه شطحات لا تقل رعونة ولا غرابة في المعنى، لكن ذلك لم يأخذ بالشبلي إلى حتفه.

وقد تحايل معاصروه على الأمر، بأن قبلوا فكرة أنه (مجنون) فأودعوه مستشفى الأمراض العقلية (بيمارستان المجانين) حتى مات ميتة طبيعية، بعد صلب الحلاج بخمسة وعشرين عامًا، ظل الشبلي خلالها يردد: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلصني جنوني!

(قلتُ: هنا يجمع زيدان بين قول مَن يبرؤون الحلاج مِن دعوى قوله بأن الله قد اصطفى جسده ليصير ناسوتًا يحل فيه لاهوته، وهو القول الذي أجمعت الأمة بسببه على كفره؛ إلا مَن تذرع بأن هذا القول لُفِّق له لغرض سياسي، وزيدان من تلامذة تلامذة المستشرقين، وماسنيون بعد ما نشر كتاب الطواسين للحلاج، قطع الطريق على كل منافح عن الحلاج بأن الكلام ملفق له!

والشبلي الذي استدل زيدان به صرح أنه خلصه جنونه، وأهلك الحلاج ثبوت الكلام عنه في حال اليقظة، وأما من كان لا يقول هذا إلا في حال السُّكر الصوفي -كما يسمونه-، أو -على الأقل- كان هذا ما يظهره من ادعاء الجنون أو الذهول؛ فقد اكتفت الأمة ببيان أن هذه الأقوال كفر إذا صدرت من معتقدٍ لها، ولذك بذل الجنيد دورًا كبيرًا في منع تداول شطحات البسطامي والشبلي على أنها أقوال صحيحة صادرة من مسلم عاقل).

7- قال زيدان ما ملخصه: واختفى (الشطح) من تاريخ التصوف، بعد القرن الرابع الهجري، بعد ما دفع الصوفية ثمنًا باهظًا للشطحات، تدرَّج من التجاهل التام إلى القتل، فكان من قتلى الصوفية آنذاك -غير الحلاج-: عين القضاة الهمذاني، ومن بعده: شيخ الإشراق، شهاب الدين السهروردي.. وهؤلاء جميعًا دفعوا حياتهم ثمنًا لأقوالهم الشاطحة، أو بعبارة أدق: حُكِم عليهم بالقتل؛ لأنهم تفوهوا بين أهل زمانهم بعبارات مستهجنة.

(قلتُ: بل هي عبارات كفرية، وأفتت بكفر قائليها مجالس قضائية مكونة من جمع من العلماء، وتطبيقها -كما ذكرنا- على الحلاج ومِن بعده السهروردي، دون البسطامي والشبلي؛ يدل على أن قضاة هذه المجالس استفرغوا وسعهم في تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات).

8- قال زيدان ما ملخصه: قد ارتبط اختفاء الشطح بالتطور التدريجي لأساليب التعبير الصوفي -شعرًا ونثرًاـ، وباستقرار المصطلح الصوفي واللغة الرمزية والمفردات الموحية، وهو ما قاد الصوفية في نهاية الأمر إلى ابتكار نوع أدبي -خاص- شعري ونثري، صار يُعرَف لاحقًا: بالأدب الصوفي.

(قلتُ: بالفعل انزوى التصريح بمثل هذه الأقوال الكفرية تأثرًا بالزجر الذي قوبل به الحلاج، ومِن بعده السهروردي، وتأثرًا بنقد الغزالي للفلاسفة الذين يقولون بقِدَم العالم، أو بالحلول أو الاتحاد، أو وحدة الوجود).

* انتهى ما استعرضه يوسف زيدان لتاريخ التصوف في هذه المقالة، ولكن نضيف إليها ما نشره في مقالة أخرى بنفس السلسلة، والتي كانت بعنوان: "القولُ الخامس: في حقيقة الوحدة وهَـرَم الولاية"، ونتابع ترقيم الفقرات بناءً على ما انتهينا إليه في استعراض ما قاله في المقالة السابقة.

9- قال زيدان ما ملخصه: المهم، أن القول بقدم العالم، يعني انعدام العناية الإلهية بالكون! بل يقطع الصلة بين الله والعالم. وقد قرَّر فلاسفةٌ آخرون -منهم أفلاطون-: أن الله هو (الصانع)، وبالتالي فهو يعتنى بالعالم، بينما قرَّر أرسطو: أن الله يؤثِّر في العالم من دون أن يتأثَّر به! فهو المحرِّك الذي لا يتحرَّك... أما فلاسفة الإسكندرية -وعلى رأسهم: أمونيوس ساكاس، وتلميذه الأشهر (أفلوطين)-، فقد قالوا بنظرية الفيض، التي تقرِّر أن الوجود فيوضات متتالية الصدور عن الواحد (الله).

وفى عموم العقائد المسيحية: فإن الله قد يحلُّ في خَلْقه، مثلما هو الحال في حلول الله في المسيح، وفي عموم الاعتقادات الإسلامية: فإن الله مفارقٌ تمامًا للخَلْق، ولا تماس بينهما ولا حلول ولا اتحاد... ولذلك قُتِل الحلاج في بغداد سنة 309 هجرية؛ لأنه قال عبارات فَهِم منها معاصروه أنه يعتقد بإمكان حلول الله في البشر، أو اتحاده بهم (أو هو على الأرجح قد قُتِل لأسبابٍ سياسية، بذريعة وحجة شرعية).

أما (الوحدة) أي: الاعتقاد بأن الله والكون شيء واحدٌ، فهي فكرة تعود في أصلها إلى الديانات الهندية القديمة، وقد أشير إليها بوضوح في كتب الهندوس المقدسة المسماة (الفيدا) وفي شروحها المسماة (اليوبانيشاد)، كما ظهر (مذهب وحدة الوجود) عند عديد من الفلاسفة والمفكرين، من القدماء والمحدثين، منهم: زينون، وديدرو، والفيلسوف البديع: إسبينوزا.

وعند الصوفية المسلمين، الوحدة هي الفكرة التي تعبِّر عنها عبارة عبد الكريم الجيلي (ما ثَمَّ إلا الله)، وعبارة ابن سبعين الأندلسي (الله فقط)، وعبارة محيي الدين بن عربي (ما في الوجود إلا الله)... وكلها عبارات دالة على أن (ما سوى الله) وَهْمٌ وخيالٌ، وأنه -تعالى- هو المتجلي في كل شيء، وهو حقيقةُ كل شيء؛ ولذلك لا يعرف الصوفية (التكفير)؛ لأنهم أدركوا معنى الآية القرآنية: (‌وَإِنْ ‌مِنْ ‌شَيْءٍ إلا ‌يُسَبِّحُ ‌بِحَمْدِهِ) (الإسراء: 44)، ومن هنا قال ابن عربي بيته الشعرى الشهير:

عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدًا        وأنا اعتقدتُ جميعَ ما عقدوه

(قلتُ: في هذه الفقرة، لخَّص يوسف زيدان كل العقائد الإلحادية من القول بقِدَم العالم، وعقائد الفلاسفة المشائين التي قد تبدو أفضل نسبيًّا من القائلين بقدم العالم، ولكن هذا لا يخرجها عن كونها عقيدة كفرية كما بيَّن الغزالي في تهافت الفلاسفة. واعترف على شيوخ وحدة الوجود بأقوالهم التي هي أكفر من عقائد اليهود والنصارى كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

وأما اعترافه بأن هؤلاء القائلين بوحدة الوجود لا يعرفون تكفيرًا، فيتوجه إليه السؤال: فلِمَ أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب؛ لا سيما نبيه الخاتم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، والكتاب الخاتم القرآن الكريم؟! وفيمَ كان الخطاب القرآني: (قُلْ ‌يَا أَيُّهَا ‌الْكَافِرُونَ...) (سورة الكافرون)؟! ومِن ثَمَّ أجمعت الأمة على كفر مَن اعتقد هذه الأقوال لمصادمتها للقرآن كله من أوله إلى آخره).

10- قال زيدان ما ملخصه: وقد اشترط الصوفية لإدراك هذه (الحقيقة الوجودية) أن يكون ذلك عن (شهود)، وليس نتيجة نَظَرٍ عقلي، أو ترتيب فلسفي، فالصوفي يعرف (الوحدة) حين يترقى عن أحكام الحسِّ! وهو ما أكَّده الصوفي الشهير "عبد الغني النابلسي" حين قال شعرًا:

لا تَقُلْ وحدةُ الوجود إذا لَمْ           تَـفْـنَ عن كُلِّ كائنٍ موجود

(قلتُ: وهذه هي كبرى الآفات عند الصوفية، وهو افتراض مصدر لمعرفة حقائق الكون غير الوحي، بل وزادوا في غيهم، وقالوا: ولا العقل! فلم يبقَ إلا وساوس الشياطين التي سموها: إشراقًا للنفس!).

11- قال زيدان ما ملخصه: أما (القطب) أو (الإنسان الكامل)، أو (المحقِّق) أو (الحكيم المتألِّه)، فهذه كلها مسميات لقمة هرم الولاية، وهي صفةٌ صوفيةٌ لمقامٍ روحي هو الأعلى في السلم التصاعدي لمراتب الأولياء... لكن هذا الكلام غير دقيق! فالولاية في المفهوم الصوفي إنما تشمل جميع المؤمنين، ثم تتصاعد تدريجيًّا إلى مرتبة الأولياء (الأبدال)، والأولياء (النقباء)، والأولياء (الأقطاب)، وفوق هؤلاء جميعًا من حيث المنـزلة الروحية: (قطبُ الأقطاب)، وهو المسمى عند ابن سبعين: (المحقِّق)، وعند السهروردي (الحكيم المتألِّه)، وعند ابن عربي والجيلي (الإنسان الكامل)، وعند غالبية الصوفية (القطب).

(قلتُ: ومع إصرار الصوفية على كون علومهم إشراقية على النفس، فهم شبه متفقين على هرم الولاية، أو ما يسميه بعضهم: بحكومة الباطن، وهي أشبه بنظرية تفويض التصرف في الكون من الخالق الذي جعلوه غير متصرف في الكون، وإنما فوض هؤلاء، وهذا التفويض إنما عُلِم بإشراق على نفس هؤلاء مع تفاوت أزمانهم، من السهروردي إلى ابن عربي إلى التلمساني إلى الجيلي! سبحانك ربي! هذا بهتان عظيم).

وبذلك نكون قد انتهينا من استعراض زيدان لتاريخ التصوف من سلسلته: "الرؤية الصوفية للعالم"، ولعرض أدق لهذا الموضوع يمكن الرجوع إلى سلسلة المقالات التي أكتبها بعنوان: "الصوفية من الزهد إلى وحدة الوجود"، ولكن ننتقل الآن إلى استعراض زيدان لعقيدة وحدة الوجود، كما يقررها واحد من أكثر القائلين بها صراحة وزندقة، وهو "عبد الكريم الجيلي".

يوسف زيدان بوق المشعبذ الأعظم الجيلي:

واما وصف الجيلي بأنه المشعبذ الأكبر، فنقله يوسف زيدان عن أستاذ أستاذه، حيث قال بعد أن ذكر أنه قدَّم لأستاذه فكرة أن يعد رسالة الماجستير عن "عبد الكريم الجيلي": وتوقف الأستاذ المشرف الدكتور حسن الشرقاوي، عن قبول أو رفض الخطة.. ثم علَّق الأمر بموافقة أستاذه وأستاذي الدكتور محمـد علي أبو ريان، ولما عرضت الأمر على الأخير، صاح فيَّ: كيف ستدرس عبد الكريم الجيلي؟ وكيف ستفهمه؟ إن لي أربعين سنة أحاول فهمه، وما فهمتُ منه شيئًا، فهل ستفهمه أنت؟! وأضاف: إنني أسمى هذا الجيلي؛ المشعبذ الأعظم (الفكر الصوفي بين عبد الكريم الجيلي وكبار الصوفية، ص 5).

وأما أن يوسف زيدان هو بوق ذلك المشعبذ الأعظم، فهذا واضح؛ فإنه بمناسبة وبغير مناسبة يذكر الصوفية والجيلي، وعبقرية فسلفته!

من شعبذات الجيلي وزيدان: عذر إبليس!: 

يقول يوسف زيدان: "من هذا المنطلق، انتحل الحلاج -أبو المغيث الحسين بن منصور، المقتول سنة 309 هـ الأعذار لإبليس، على اعتبار أن إرادة الله سابقة فيه، وأن إبليس كان ينفذ الاختيار الإلهي، الذي تجلى عليه خلال مدته الطويلة على مشاهدة تجليات الحق، ولكن الله احتجب عنه وهو في المعصية لمجادلته".

ثم قال: "يقول الحلاج: قال له الحق -سبحانه-: الاختيار لي، لا لك! قال إبليس: الاختيارات كلها، واختياري لك، وقد اخترت لي يا بديع، وإن منعتني عن سجود، فأنت المنيع، وإن أردت أن أسجد له، فأنا المطيع، لا أعرف في العارفين أعرف بك مني.. فاختلط أمره (إبليس) وساء ظنه، فقال: أنا خير منه! وبقي في الحجاب، وتمرغ في التراب..." <الحلاج: كتاب الطواسين، نشره ماسينيون، باريس 1913، طاسين: الأزل والالتباس، ص 41 وما بعدها، كتاب الفكر الصوفي بين عبد الكريم الجيلي وكبار الصوفية، ص 101)>

من شعبذات الجيلي وزيدان: عبدة الأوثان كفار بالشريعة، ولكنهم عابدون لله:

يقول زيدان حاكيًا عن الجيلي: "ومع أن عبدة الأوثان هم في حقيقة الأمر عابدون لله؛ إلا أن خطأهم يرجع إلى أن عبادتهم لله كانت على التقييد وليس على الإطلاق، فعلى الرغم من أن الوثن مظهر من مظاهر أسمائه -تعالى- التي لا يبلغها الإحصاء، فإن هؤلاء عبدوا الله (على التقييد) بهذا المظهر وحده، ولم يدركوا أن الله إنما هو مطلق في كل المظاهر، ومتجلٍّ في كل الموجودات، فقيدوا الله -سبحانه وتعالى- في صورة واحدة من صور تجلياته التي لا يحصيها الحصر، وهو خطأ منهم، لكنه لا يخرج بهم حسبما يرى الجيلي، عن كونهم قد عبدوا الله وسبحوا له" (دوامات التدين، ص 244).

ثم يكرر هذا مع عبدة الكوكب وغيرهم.

من شعبذات الجيلي وزيدان: تصحيح دين اليهود والنصارى:

قال زيدان حاكيًا عن الجيلي: "واليهود وإن كانوا من عباد الله على الحقيقة؛ إلا أنهم في ظاهر الأمر ضالون؛ لأنهم أخفوا بعضًا من أصول الشريعة التي نزلت عليهم، حين جاء موسى بالألواح، واستبقوا فقط ما اعتقدوا أنه في مصلحتهم، فكانوا هم الضالين بظواهرهم، المسبحين لله ببواطنهم وحقيقة ديانتهم! وكذلك المسيحيون الذين أخطأوا بقولهم: اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، ولو قالوا: إن المسيح هو الله لما كانوا مخطئين في الظاهر؛ لأن الله المحيط والمتجلي بكل شيء، ولا يمكن لشيء واحد أن يحده، فلا يصح أن يقال: إن الله هو كذا أو كذا؛ لأن الله -تعالى- هو كل شيء، وكل شيء يدل عليه، لكنه لا يحيط به" (دوامات التدين، ص 245).

من شعبذات زيدان: كتب اللاهوت العربي والدعوة إلى الدين الإبراهيمي:

يحدثنا زيدان عن اليهودية والنصرانية والإسلام في سياق تطوري، يوحي بأنها ليست وحيًا من عند الله، ونحن نؤمن بأن التوراة والإنجيل أصلهما من عند الله، ولكن لحقهما التحريف، وأما القرآن فتعهد الله بحفظه، فقال: (‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

وبالتالي حينما يحدثنا زيدان عن النصوص التي في التوراة والتي فيها الأمر بقتل الأطفال، وبقر بطون الحوامل؛ فإننا نوقن أن هذا ليس من عند الله.

وعندما يحدثنا أن النصرانية كانت ديانة المحبة، ولكنها استعملت العنف مع الرافضين لها من الوثنيين كما في روايته عزازيل (والتي يكثر من التشكي لردود الكنيسة عليه بشأنها فيما ذكره فيها من قتل الكنيسة للفيلسوفة هيباتيا)، ولكنه هنا يحدثنا عن تاريخ يعلمه الجميع حتى بين الكاثوليك والأرثوذكس إلى أن نوَّر الله مصر بالإسلام، وأعزها بعمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي أمَّن الأرثوذكس على دينهم.

(في خِضَم نقدي اللاذع لشعبذات يوسف زيدان لا يفوتني أن أثبت أنه يدافع ويثني على عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، وإن كان عمومًا موقفه من عمرو بن العاص لا يتفق مع سائر توجهاته الفكرية).

لكن الخطورة الكبرى أن يدس يوسف زيدان عبارة: (ثم جاء الإسلام فكان نفس توجه العنف) إلى آخره، وتبرير هذا أن هذا هو مزاج المنطقة العربية، وفي هذا إيماء شديد أن الاسلام ليس وحيًا من عند الله!

ويخلص من هذا: أن اليهودية والنصرانية والإسلام حتى في قضية التوحيد ما هي إلا تجليات لديانة واحدة يراها ديانة جيدة؛ لولا ما فيها من عنف! وبالتالي فهو يريد الدعوة إلى هذه الديانة الموحدة على أن تتضمن هذه الدعوة مراجعة الموقف من العنف، وبالتالي فكتاب اللاهوت العربي يمثل أسوأ صور الدعوة إلى الدين الإبراهيمي، وأكثرها شعبذة.

شعبذة وثنية حلولية في كتابه: (فقه الثورة):

كَتَب يوسف زيدان الكثير من المقالات على امتداد سنوات الثورة، ضمنها الكتب الأربعة التي تقدمت الإشارة إليها، وهي في جملتها رافضة لكل شيء، وبعد 30-6 يبدو أنه أراد أن يرفع حدة انتقاداته، ولكن دون مساءلة، فلجأ إلى سلسلة مقالات عن عابد يناجي ربه، لكنه اختار هذا الرب مرة الإله حتحور -أحد آلهة قدماء المصريين-، ومرة أخرى اختار أن يتحدث بلسان اللاهوت والناسوت -كالحلاج-، وهكذا في صورٍ من العبث بالدين والعقيدة، والتخليط بين الإسلام والفلسفات الإلحادية والديانات المحرفة، بل والوثنيات عبر التاريخ!

شعبذة أن المسجد الأقصى الذي أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه في الطائف:

قال الله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، في هذه الآية يذكر الله -عز وجل- معجزة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، ونص على أنه آية من آيات الله، وهي الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

والعرب المخاطَبون بهذه الآيات كان معظمهم آنذاك كافرًا، ولكنهم عندهم عقول يفهمون بها الخطاب، وقد فهموا من تسمية الله البيت الحرام بالمسجد الحرام، أن القرآن يسمي مكان العبادة المنسوب للأنبياء مسجدًا، ولم يكن يُعلم على وجه الأرض حينها أماكن بناها أنبياء للعبادة إلا هذين المكانين، وطالما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش في كنف المسجد الحرام، فإذًا فالمسجد البعيد لا يبقى إلا أن يكون المسجد الآخر الذي في بيت المقدس.

وأما التعبير بأفعل التفضيل "الأقصى" ففيها نكتة لطيفة أشار إليها الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير، فقال: "المسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيت المقدس الكائن بإيلياء، وهو المسجد الذي بناه سليمان -عليه الصلاة والسلام-. والأقصى، أي: الأبعد. والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء، وكونه خارقًا للعادة؛ لكونه قطع مسافة طويلة في بعض ليلة، وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف عَلَمًا بالغلبة على مسجد بيت المقدس، كما كان المسجد الحرام عَلَمًا بالغلبة على مسجد مكة.

وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن، فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف، ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء، ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ.

وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزة خفية من معجزات القرآن إيماءً إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌّ عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ، فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بيَّنها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌تُشَدُّ ‌الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي) (متفق عليه).

وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله: (مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أمران:

أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظيمة في جزء ليلة؛ لأن كلًّا من الظرف، وهو: (لَيْلًا)، ومن المجرورين (مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، قد تعلَّق بفعل، (أَسْرى)، فهو تعلق يقتضي المقارنة؛ ليُعلم أنه من قبيل المعجزات.

وثانيهما: الإيماء إلى أن الله -تعالى- يجعل هذا الإسراء رمزًا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس، ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضًا؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى، ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة؛ لأن كل سُرًى يعقبه تأويبٌ، وبذلك حصل رَدُّ الْعَجُز على الصَّدْر" (انتهى كلام الطاهر بن عاشور -رحمه الله-).

ولكن الأقصى تبقى على بابها كأفعل تفضيل، فإذا قال أي إنسان وَصَف مسجد بلده: إن أقرب مساجدها من موضع ما كذا... وأقصاها كذا... فلا يتصور أن يندفع قارئ بلا عقل أو روية، ويقول: عثرت على مكان آخر للمسجد الأقصى، وهذا ما فعله زيدان حينما أخذ يفتش في اللغة عن أي مسجد وصف بأنه "أقصى" كوصف مكاني؛ ليقول: إنه هو المعني بالمعجزة التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-!

شعبذة أن عبادات المسلمين كانت بالسنة الشمسية:

قال الله -تعالى-: (‌يَسْأَلُونَكَ ‌عَنِ ‌الْأَهِلَّةِ ‌قُلْ ‌هِيَ ‌مَوَاقِيتُ ‌لِلنَّاسِ ‌وَالْحَجِّ) (البقرة: 189)، فدلت دلالة قطعية على أن عباداتنا بالأشهر القمرية، والله -تعالى- يقول أيضًا: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: 36)، فدل على أن السَّنة اثنا عشر شهرًا من هذه السنة القمرية، ولكن وقع في تسمية الأشهر القمرية ما يربطها بفصل مناخي معين، ومن أبرز هذا "ربيع الأول" و"ربيع الآخر"، وتفسير هذا يسير جدًّا ولو تخمينًا، وهو أنه اتفق في الوقت الذي وضعت فيه هذه الأسماء أن وافقت هذه الشهور تلك المواسم المناخية، ولكن يوسف زيدان تقليدًا لبعض المخرِّفين الآخرين قال: ولماذا لا نقول: إن العرب كانوا يضيفون شهرًا إضافيًّا كل ثلاث سنوات تكون سنته "13 شهرًا" خلافًا لنص الآية، بحيث يكون الشهر القمري دائمًا ثابتًا تقريبًا في موقعه المناخي!

ومن خذلان الله لهم: أنهم سموا هذا نسيئًا، وزعموا أنه في القرآن، ولكن إنما ورد النسيء في القرآن مذمومًا (وورد تفسيره عن السلف أن العرب كانت تفعله من أجل استحلال الشهر الحرام لا من أجل ضبط الأشهر القمرية على السنة الشمسية)، فزعم هؤلاء خلافًا لكل السلف أن النسيء هو شهرهم الثالث عشر، وأن المنهي عنه التلاعب فيه بكونهم كانوا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا.

وزعم هؤلاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعثمان، كانوا يزيدون هذا الشهر كل ثلاث سنوات حتى منعه الأمويون!

(الحل السحري لدى هؤلاء: أن كل ما لا يعجبهم إما أنه من وضع الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين؛ يعني التاريخ الإسلامي كله عندهم هو تاريخ تلاعب فيه الحكام بالشريعة!).

ومنذ أيام هنئننا يوسف زيدان بعيد الأضحى، ولكنه لم يفته أن يعيرنا أن التوقيت تلاعب فيه الأميون -على حدِّ زعمه!-.

وقفة أخيرة:

عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي: عبدة الأوثان لا غبار عليهم من عِدَّة جهات:

- أن ابن عربي زعم أنه لا يعرف إلا الحب، ولا يمكنه أن يكره الكفر ولا الفسوق ولا العصيان!

- أن هؤلاء معذورون بما قَدَّره الله عليهم.

- أن هؤلاء وإن عبدوا الأوثان وهم مخطئون، لكن مَن سيصل إلى الولاية سيكتشف أنهم مصيبون؛ عندما يدرك أن هذا الكون كله هو الله! (وكل واحدة من هذه، كفر مستقل).

وزيدان شديد الاحتفاء والحفاوة بهذا الكلام.

والسؤال:

- لماذا يكره زيدان الأمويين وقد شيَّدوا حضارة للمسلمين في منطقتنا العربية وفي الاندلس، ومنهم تعلمت أوروبا؟!

- لماذا يكره العباسيين وقد كانت الأمة في زمانهم في عزٍّ ومجدٍ؟!

- لماذا يكره السلفيين (الذين ردوا أباطيل شيوخه؛ وهم يزعمون حب مَن كذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم-)؟!

- لماذا يكره كلَّ مَن يوجِّه له نصيحة؟!

- أليس كل هؤلاء داخلون في قاعدة: "الحب" التي أصلها ابن عربي والجيلي أم ماذا؟!

وقفة بعد الأخيرة:

هذه المقالة هي جزء من سلسلة فضح أفكار مؤسسة تكوين، وبينما تعد للنشر خَرَج علينا يوسف زيدان بخبر استقالته من مؤسسة تكوين (ومرة أخرى يفشل الحب الصوفي في التعايش السلمي حتى في هذا النطاق الضيق!).

وترددتُ: هل ما زال عنوان المقالة وموقعها في سلسلة الرد على تكوين قائمًا؟ وانتهيت إلى أنها:

- من جهة: فيها الرد على فكر الدكتور يوسف زيدان، وهو ما زال على أفكاره -فيما نعلم-، بل قرار استقالته تضمَّن تهديدًا أنه سيستمر في الكتابة.

- ومن جهة أخرى: فقد قدمنا أن الأمة تبرأت من أقوال الحلول والاتحاد، كما حكى زيدان نفسه، وإن بقي بعضهم يثني على ابن عربي أو غيره من باب أنه لم يقل بهذه الكفريات، حتى جاء ماسينون وكلسون، وغيرهما من المستشرقين، فأعادوا نشر المخطوطات وتحقيق وشرح المؤلفات ليؤكدوا أن الحلاج حلولي، وأنه صوت النصرانية في الإسلام، وأن ابن عربي وجلال الدين الرومي، وغيرهما، يقولون بوحدة الوجود، وينصون على أنهم يجب أن يعملوا على نصر القائلين بوحدة الوجود في العالم الإسلامي طلبًا لنتائج هذا القول من قبول كل صور الباطل.

وقد قدَّمنا دلائل تبيِّن أن "تكوين" واجهة لنشر فكر المستشرقين، فاستقالة زيدان لا تغير من هذا التوجه.

نسأل الله أن يرزقهم جميعًا التوبة قبل الممات.

وبالتالي فقد آثرتُ نشر المقالة بذات عنوانها، وفي ذات سلسلة الرد على تكوين؛ تحذيرًا للجميع مَن هذه الشعبذات التي تمثِّل خطورة على الدِّين، وعلى الأمن القومي، وتفتح الباب للصهيونية والهندوسية والبوذية.

نسأل الله أن يحفظ مصرنا من عبث العابثين، إنه حسبنا ونعم الوكيل.