الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 يونيو 2024 - 9 ذو الحجة 1445هـ

تهنئة "الدعوة السلفية" للمسلمين في مصر والعالم بـ"عيد الأضحى المبارك"

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتهنئ "الدعوة السلفية بمصر" المسلمين بمصر والعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك، تقبَّل الله منا ومنكم صالح العمل، وأعاده علينا وعليكم بالخير والبركات.

الأضحية والاستسلام لرب العالمين:

يأتي عيد الأضحى المبارك في أيام الحج ليذكرنا ويربطنا بأصولنا، ويعيد أمام أعيننا تلك المشاهد الرائعة في الاستسلام والانقياد لرب العالمين؛ حين أخبر نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ابنه، ثمرة فؤاده وفلذة كبده، والذي وهبه الله له على كبر، أن الله يأمره بذبحه، فكان جوابه أيضًا استسلامًا، وصبرًا وانقيادًا، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى ‌فِي ‌الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102).

ثم كان عاقبة الاستسلام والانقياد من أبي الأنبياء وابنه السلامة والعافية في الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وبقاء الذكر الحسن في العالمين: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (الصافات: 103-110).

ثم شرع الله لنا ذبح الهدي في الحج، وشرع لنا ذبح الأضحية في الأمصار: قال -تعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "ضَحَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ ‌وَاضِعًا ‌قَدَمَهُ ‌عَلَى ‌صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ" (متفق عليه).

ولا تكون الأضحية إلا من بهيمة الأنعام، وهي: الضأن والمعز، والإبل والبقر، ذكرًا كانت أو أنثى، ويدخل في البقر الجاموس، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ ضحَّى بغير بهيمة الأنعام.

ويختار المسلم لأضحيته السليمة من العيوب: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا -أي: التي عورها ظاهر جدًّا-، وَالْمَرِيضَةُ ‌الْبَيِّنُ ‌مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا -أي: عرجها-، وَالْكَسِيرُةُ الَّتِي لَا تُنْقِي -أي: الهزيلة والضعيفة-) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، مع مراعاة شرط السن.

وفي الأضحية: طاعة لله -سبحانه وتعالى-.

وفيها: اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-.

وفيها: من إهراق الدم الذي هو قربة لله -سبحانه وتعالى-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ ‌مِنْ ‌إِهْرَاقِ ‌الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وفيها: صلة للأرحام بما يُهدَى للأقارب.

وفيها: من الإطعام للفقراء والتوسعة على الأهل والأولاد بما يدخل السرور على قلوبهم.

الصلاة وبناء شخصية المسلم:

لقد قرنت الصلاة والذبح لله في غير ما موضع في القرآن العظيم: قال الله -تعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّ ‌صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، فالصلاة هي عمود الدين قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "صحيح لغيره"). وهي خير موضوع، وهي قرة عين رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهي موطن راحته، وهي ملجؤه حين الفزع؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا ‌حَزَبَهُ ‌أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

وهي صلة بين العبد وربه؛ يقف العبد بين يدي ربه خمس مرات في اليوم، غير السنن الرواتب، والصلوات المستحبة: كالضحى، والفجر، والوتر، والله -سبحانه- يعلم ما يصلح الإنسان؛ لذلك فرض عليه خمس صلوات في اليوم لينصلح قلبه، فيجتنب الفواحش: (‌إِنَّ ‌الصَّلَاةَ ‌تَنْهَى ‌عَنِ ‌الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45)؛ فكيف يصير حال الإنسان حين يترك الصلاة؟! وأي فساد يتسلل لقلبه؟! وأي وحشة يعاني منها؟! وكيف يستطيع أن يجتنب الفواحش إن ترك الصلاة وترك نفسه ضعيفًا منهكًا أمام شيطانه وأمام نفسه الأمارة بالسوء؟ فحافظوا عباد الله على صلاتكم وأقيموها في وقتها: (‌إِنَّ ‌الصَّلَاةَ ‌كَانَتْ ‌عَلَى ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌كِتَابًا ‌مَوْقُوتًا) (النساء: 103)، وصلوا كما كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يصلي، واحذروا من وعيد الله -سبحانه وتعالى-: (‌فَخَلَفَ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59).

إن إبراهيم كان أمة إمامًا يعلم الناس الخير:

يأتي العيد بعد العشر الأول من ذي الحجة، أفضل أيام العام، والتي يحب الله فيها الطاعة، ويقبِل المسلمون على ربهم بين حاج وصائم وقائم، بين ملبٍّ ومكبر، بين منفق ومتصدق، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على توفيقه أن يسر للمسلمين أمر الطاعة، وأن هداهم سواء السبيل.

يأتي العيد وقد يمم ملايين الحجيج وجوههم صوب المسجد الحرام، ملبين نداء إبراهيم -عليه السلام-: (‌وَأَذِّنْ ‌فِي ‌النَّاسِ ‌بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27)، فمنذ آلاف السنين ويلبي الناس ذلك النداء العظيم!

لم يتوقف طواف المسلمين حول الكعبة، وحتى عندما ينكب المسلمون في بيت الله الحرام، أو يتسلط عليه ظالم، لا يلبث الأمر إلا قليلًا ليعود المسجد الحرام ممتلئًا بالركع السجود، فكم تعرض عالمنا الإسلامي لنكبات، ولكنه هضمها كلها ثم عاد فتيًّا على يد الخُلَّص من أبنائه، فغرْس الله للأمة لن ينقطع لقيام الساعة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌يَزَالُ اللَّهُ ‌يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ ‌غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني).

ففي موسم الحج يطوف المسلمون في لباس إحرام واحد، حول بيت واحد، يؤدون نفس المناسك، ويعبدون إلهًا واحدًا، يلتقون في موسم الحج من بلدان شتى، وبألسن شتى، وألوان شتى، قد جمعتهم كلمة التوحيد رغم مكائد أعداء الدين والعقيدة.

يأتي الحج ليذكر المسلمين بأنهم كالجسد الواحد يتداعى حين يصاب بعضه، وأنهم جسد واحد ملتحم، وأن الفرقة الحاصلة ما هي إلا مرحلة مؤقتة مآلها للانتهاء، وأن بلدان الإسلام مآلها للاجتماع والوحدة.

يأتي عيد الأضحى ليذكرنا بسيرة أبي الأنبياء وخليل الرحمن، والتي سيرته قدوة وأسوة للمؤمنين في كل تفاصيلها؛ لقد كان إبراهيم -عليه السلام- أمة -أي: كان إمامًا يعلِّم الناس الخير-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120).

كان -عليه السلام- إمامًا للحنفاء، وبانيًا لبيت الله الحرام، وجعل الله ملته هي الملة التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتباعها: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123).

لقد كانت حياة إبراهيم -عليه السلام- مثالًا وقدوة وأسوة للمسلم في كلِّ جزء من جزئياتها؛ كان إبراهيم القدوة في فتوته؛ إذ صدح بالحق وصبر على البلاء، وكان قدوة في أبوته، وفي استسلامه وانقياده لله رب العالمين، وكان قبل كل ذلك قدوة وأسوة في دعوته.

فما أحوج الدعاة والمصلحين أن يتأسوا بإبراهيم -عليه السلام- في دعوته، وهم يأخذون بيد الأمة من وهدتها، ويحاولون أن يعيدوها لمكانها الطبيعي؛ أمة وسطًا شاهدة على الناس، وخير الأمم؛ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ كيف لا وقد أمر الله رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع ملة إبراهيم: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟!

- كان إبراهيم -عليه السلام- إمامًا للدعاة في الحرص على هداية البشر، وفي إقامة الحجة والبيان، وفي الدعوة على بصيرة، وبالرفق واللين، وفي نفس الوقت هدم التصورات الكفرية في قلوب الناس، والبراءة من الشرك وأهله، ومفارقة المعاندين لرب العالمين.

- كان -عليه السلام- حريصًا على هداية الناس، فكانت نجاتهم أحب إليه من هلاكهم على الكفر والمعصية: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود: 74، 75).

- كان -عليه السلام- حريصًا على دعوة القريب قبل البعيد: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) (مريم: 42).

- كان -عليه السلام- مترفقًا في دعوته بعيدًا عن الغلظة والشدة: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم: 43).

- كان -عليه السلام- يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78، 79).

- بل كان -عليه السلام- يتفقد ثمرة دعوته ويحرص على ما يصلحها: (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت: 32).

- وكان إبراهيم -عليه السلام- يراعي المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز، ليرسم للمسلمين من بعده كيفية الموازنة، وإدراك موازين القوة والاختيار بين خير الخيرين وشر الشرين؛ فإنه قد قَدِم أرضَ جبارٍ ومعه امرأته سارة، وكانت أحسن النساء، فقال إبراهيم لزوجته سارة: (إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ! فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- إِلَى الصَّلَاةِ، ‌فَلَمَّا ‌دَخَلَتْ ‌عَلَيْهِ ‌لَمْ ‌يَتَمَالَكْ ‌أَنْ ‌بَسَطَ ‌يَدَهُ ‌إِلَيْهَا ‌فَقُبِضَتْ ‌يَدُهُ ‌قَبْضَةً ‌شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ! فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ! فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ! فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ" (متفق عليه).

- وكان -عليه السلام- حريصًا على هدم الباطل في نفوس الناس قبل هدم أصنامهم بالحجة والبيان: قال -تعالى-: (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) (الأنبياء: 62، 63).

- وكان -عليه السلام- حريصًا على البراءة من الكفار المعاندين، بل والجهر بمعاداتهم حين لا يؤمنون بالله وحده ويصدون عن سبيل الله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ? رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4).

جروح غائرة في جسد أمتنا الواحد:

فقد أقبل العيد وجسد الأمة مكلوم مجروح في مواضع عديدة: ففي غزة جرح غائر، وفي السودان جرح منسي؛ ففي غزة عربد اليهود وارتكبوا من الفظائع ما تتصاغر معه جرائم الطغاة التي حدثنا عنها التاريخ، فخلال ما يقارب العام تقصف إسرائيل غزة بكل أنواع القذائف التي تمدها بها أمريكا والعديد من دول أوروبا على قطاع لا يتجاوز الأربعين كيلومتر طولًا، والعشرة كيلومترات عرضًا، وربما قلَّ عن ذلك في بعض المواضع! ولم يترك اليهود موضعًا إلا قصفوه، فهدفهم هو أن يتحول القطاع لمكان غير صالح للسكنى؛ ليجبروا شعبنا في غزة على ترك ديارهم والرحيل، لترحل معهم القضية، وهو ما لن يحدث -بإذن الله تعالى-.

ورغم القصف والحصار والإجرام لا يزال شعبنا في غزة صابرًا مثابرًا، يسطِّر تاريخًا من الصمود، محتسبًا، والله لا يضيع أجر المحسنين.

لقد آن الأوان: أن تتخذ الدول الإسلامية والعربية خطوات جادة في إيقاف الكيان الصهيوني عند حدِّه، وأن تتحرك لردع هذا العدو المستهتر الغاشم الذي يقوده مجرم حرب فاسد.

آن لدولنا الإسلامية والعربية: أن تستخدم كل الوسائل المتاحة، وما أكثرها، وما أكبر أثرها إن تحركت تلك الدول واستخدمت الطرق الاقتصادية والدبلوماسية، وكل الطرق المتاحة لوقف تلك الحرب التي هي عارٌ في جبين الإنسانية.

وفي السودان جرح منسي: فإن كانت تُنقل لنا فظائع العدوان الإسرائيلي على غزة بالصوت والصورة؛ فإن ما يحدث في السودان من احتراب أهلي لا يكاد ينقل لنا منه إلا قليل، فترتكب الجرائم والفظائع في صمت، وتتحدث الركبان بما يعانيه شعبنا هناك! أيعقل أن يعاني أهلنا في السودان من الجوع والعطش وهو سلة غذاء العالم العربي؟! أيعقل أن يقتلوا وأن تنتهك حرماتهم بيد بني جلدتهم؟! إن الحرص على المال والشرف مهلكة الأمم، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَا ‌ذِئْبَانِ ‌جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

فنقول لكلِّ من يعبث بالسودان، ويموِّل المجرمين بالسلاح، وكلما كادت نار الحرب أن تنطفئ يعود سريعًا ليشعلها، نقول لهم: كفوا أيديكم عن سوداننا، قطع الله أيديكم، وسلطكم على أنفسكم.

ونقول لإخواننا في السودان: آن لكم أن تنسوا تلك الخلافات، وأن تنبذوا المجرمين من صفوفكم، فإن الحرب حين تستعر في بلد بين أبنائه فالكل خاسر، "فكونوا عباد الله إخوانا"، "والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، فالله الله في دماء المسلمين فهي أشد حرمة من بيت الله الحرام.

ونقول للدول الإسلامية: آن لكم أن تعطوا خطة تعظموا فيها الحرمات، وأن تصلحوا بين المتنازعين، وأن تأخذوا على يد الطامعين في السودان وخيراته، والحريصين أن يستمر الصراع؛ ليستمر نهبهم لمقدرات السودان.

ونقول لشعبنا الصامد في فلسطين والسودان وكل مكان: إن البلاء سنة ماضية، وإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ ثبَّت الله على الحق أقدامكم، ونصركم على القوم المجرمين.

ونذكرهم أن أبا الأنبياء قد ابتلي بأشد أنواع البلاء؛ فقد ألقي في النار، وترك موطنه، وأمر بترك زوجته وابنه بوادٍ غير ذي زرع، وأمر بعد ذلك بذبح ولده، وقابل كل ذلك بالتسليم والصبر والدعاء: (‌رَبَّنَا ‌إِنِّي ‌أَسْكَنْتُ ‌مِنْ ‌ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (إبراهيم: 37).

فاللهم أنجِ المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم وحِّد صفهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، وانتقم ممن ظلمهم.

محاولات الغرب لاحتلال العقول كما احتلت الأوطان:

يأتي العيد، وقد خرجت علينا ثلة من الكُتَّاب، ممن يتسمون بأسماء المسلمين ويتحدثون بلسان عربي، يريدون أن يفرقوا بين المسلم وتراثه، ويريدون أن يسلبوا العقل العربي مرجعية الكتاب والسنة، وكل مبصر يعلم أن مِن خلفهم يقف المستشرقون، وأنهم مجرد صدى صوت لشبهات المستشرقين التي ترددت من مئات السنوات، لا جديد فيها سوى ضحالة طرح تلك الشرذمة من الكتاب، فيزعمون أن القرآن لم يثبت، فإذا خافوا من رد فعل المسلمين قالوا أنه ثابت ولكن يحاولون أن يفتحوا باب تأويل القرآن لكل عابث، بعد أن يشككوا في السنة والسيرة والعلماء والفقهاء، ويهاجموا رموز الإسلام من الصحابة وأصحاب المذاهب والبخاري ومسلم وأصحاب الحديث، بل ويهاجموا القيادات والقدوات، مثل: صلاح الدين، وعبد الرحمن الداخل، ويصفونهم بأبشع الأوصاف، ولا تنطلي شبهاتهم ولا يرددها إلا من في قلبه مرض.

وأما المسلم فإنه يُصدّق الوحيين، ومعقود عليهما قلبه، وأن القرآن محفوظ بحفظ الله له: (‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وأنه أوتي القرآن ومثله معه.

(‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ): والعرب أمة الحفظ من قَبْل مجيء الإسلام، وقد كتب القرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتبة الوحي معروفون، وما فعله أبو بكر وعثمان -رضي الله عنهما- هو جمع ما كتب في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والسنة منها ما دُوِّن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما دون بعد موته، وقد تفردت الأمة الإسلامية بعلم الإسناد الذي حفظ الله به أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

وإنك لتعجب من أُنَاسٍ يريدون إبطال كل الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يستدلون بحديث نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كتابة السنة في حياته! ليشككوا في صحة سنته -صلى الله عليه وسلم-!

ويحيرهم الجواب حين تسأل أحدهم: إذا ضعفنا كل أحاديث الرسول؛ فكيف نصلي الصلوات الخمس؟ وهو يود أن يقول: والصلاة أيضًا لم تثبت!

ولقد اعتاد هؤلاء أن يتحدثوا بباطلهم، واعتاد أهل العلم أن يواجهوهم بما يدحض باطلهم وشبهاتهم بحججٍ واضحاتٍ بيناتٍ، منها: العبادات التي يعلم القاصي والداني -بما في ذلك غير المسلمين- بأن هذه هي صلاة المسلمين، وأن تلك هي مشاعر حجهم، وفيهما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) (رواه البخاري)، وقال: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) (رواه مسلم).

وهذا امتثال من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمر ربه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، وبدورها امتثلت الأمة لأمر ربها -عز وجل-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:7).

والسيرة ثابتة بثبوت القرآن، فإن جزءًا كبيرًا منها هو من القرآن، وثابتة بثبوت السنة فإنما هي جزء منها، وهناك مِن أبناء الصحابة مَن اعتنى بجمع المغازي، مثل: عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، ومروياتهم مبثوثة في كتب السنة، وقد نقل ابن هشام سيرة ابن إسحاق بعد أن نقحها فحذف منها بعض الأشعار، ومخطوطات سيرة ابن هشام منتشرة في كل أنحاء العالم.

طريق النجاة هو العودة لله رب العالمين:

إن ما تمر به أمتنا من احتلال لأرضها، ومن محاولات مستميتة لاحتلال عقولها؛ يحتم علينا:

- أن نتسلح بالعلم النافع المبني على نور الوحيين، وأن يكون لكل أسرة وكل فرد زاده اليومي من الكتاب والسنة، وأن نلتصق أكثر بتراثنا.

- وأن نجالس العلماء الربانيين، وأن نتعلم منهم: (فَاسْأَلُوا ‌أَهْلَ ‌الذِّكْرِ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌لَا ‌تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، و(‌مَنْ ‌سَلَكَ ‌طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى ‌الْجَنَّةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- وأن نتتبع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبادته ومعاملاته، وأن نعلم أبناءنا سيرته -صلى الله عليه وسلم- فهي التطبيق العملي للإسلام، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- قرآنًا يمشي على الأرض.

- وأن تقتدي نساء المسلمين بأمهات المؤمنين في الحجاب والأخلاق، والتقوى والورع.

أيها المسلمون في عيد الأضحى، يفرح المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بنعمة الإسلام وهداية الله لهم، ويصلون أرحامهم، ويعطفون على فقيرهم.

وأيضًا أيام التشريق يقول عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَيَّامُ ‌التَّشْرِيقِ ‌أَيَّامُ ‌أَكْلٍ ‌وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ) (رواه مسلم)، فهي أيام لا تصام، ويأكل الناس فيها ويشربون، ويذكرون الله ويكبِّرونه، ويتقربون له بالذبائح.

فتقبَّل الله منا ومنكم صالح العمل، وأعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات.