الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 يونيو 2024 - 9 ذو الحجة 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (168) دعوة غيَّرت وجه الأرض (15)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة السادسة عشرة:

قوله -تعالى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) فيه استغفار الإنسان لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا قيامًا بحقِّ الوالدين، وهذا من أعظم البر، وقد علَّمنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن ندعو لوالدينا وللمؤمنين؛ رغم أن أبا إبراهيم لم يكن مسلمًا، ولكن الظاهر أن إبراهيم دعا له قبل أن يموت على الكفر؛ للموعدة التي وعدها إياه، كما قال الله -عز وجل-: (‌قَالَ ‌سَلَامٌ ‌عَلَيْكَ ‌سَأَسْتَغْفِرُ ‌لَكَ ‌رَبِّي ‌إِنَّهُ ‌كَانَ ‌بِي ‌حَفِيًّا) (مريم: 47)، وقال -سبحانه وتعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113، 114).

وإبراهيم يتبرأ أيضًا من أبيه في القيامة، ويمسخ ضبعًا متلطخًا بعذرته فيلقى في النار؛ لأنه مات كافرًا -والعياذ بالله-، وأما أم إبراهيم فلم يرد لها ذكر في نصوص الكتاب والسنة؛ فلا ندري: هل كانت على ملة زوجها أو ماتت قبل ذلك، أو وافقت إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وإن لم تهاجر؟ فنحن لا ندري، والوقف واجب في ذلك، والله أعلى وأعلم؛ لأن ما لم يَرِد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع وجب فيه الوقف، والله أعلم.

وأما الدعاء للمؤمنين فهو بوجود هذه الرابطة العظيمة؛ رابطة الحب في الله، والنصح للمؤمنين، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، وثواب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عظيم جدًّا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنِ ‌اسْتَغْفَرَ ‌لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وفهم السلف -رضوان الله عليهم- لهذه الأدعية العظيمة أنها تشمل الأحياء منهم والأموات، ومن سيأتون بعد ذلك، فعن عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، ‌وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19)" (رواه مسلم).

مع أن الرجل لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن نوى حين يستغفر للمؤمنين والمؤمنات مَن مضى منهم، ومَن هم أحياء اليوم، ومَن يأتي مِن ذريات الموجودين أو من غيرهم، كان بذلك شفيقًا رحيمًا ناصحًا لعباد الله المؤمنين، وهذا يحبه الله -سبحانه وتعالى-، وهو يؤتي الحنان من شاء كما قال -سبحانه- عن يحيى -عليه وعلى نبينا السلام-: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 12، 13)، فالشفقة على المؤمنين ثمرة الحب في الله التي هي أوثق عرى الإيمان، ورحمتهم والسعي في نجاتهم في الدنيا والآخرة مِن أعظم أسباب توثيق وزيادة هذه العروة من عرى الإيمان.

وأما القسوة على المؤمنين فليست صفة أهل الإيمان، بل صفة هي صفة الكفرة وإن وجدت في بعض المسلمين، وإن لم يكفروا بذلك، لكنها صفة قبيحة؛ قد قال الله عن الكفار: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) (التوبة: 10)، فأما من يجعل همه الطعن في أهل الإيمان بأدنى ذلة أو حتى بمخالفة في مسألة اجتهادية، بل أحيانًا يكون المهاجم الجارح الغالي في التجريح، هو المخطئ بلا شك، بل هو المبتدع، ومع ذلك تجده يطعن ويضلل، ويفسق ويبدع، وأحيانًا يكفر بلا علم، كما تجد بعض هؤلاء في زماننا؛ همه في الحياة أن يضلل أبا حنيفة -رضي الله عنه- أو يكفِّره! ولا يعرف له فضله ومنزلته، وأن الناس تعلموا منه الفقه، ومن تلامذته؛ حتى الأئمة الكبار كالشافعي -رحمه الله-.

ويجعل أحدهم همه تكفير النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما، ممَّن أخطأ في مسألة كان يظن فيها أن لأهل السنة قولان؛ لانتشار القول المخالف للحق في زمنه على أنه قول مقبول، ولم يشفع عنده الحسنات العظيمة في نصرة الدين ونصرة السنة، وشرح أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الزهد والعبادة؛ لم يشفع ذلك عندهم حتى تغمر الحسنات هذه السيئة، والله -عز وجل- أعلم: هل كان مجتهدًا فيها مخطئًا أم لم يكن؟ ولكن على أي حال لا نثبت العصمة، ولكننا في نفس الوقت نرحم الخلق، ونعلم قدر مَن سبقت له حسنات عظيمة، ولا نجعله كمن ترأسوا في البدع وأظهروها، وعاشوا عمرهم من أجلها، فمن عاش من أجل نصرة الدين ثم وقعت منه مخالفة كان ذلك عندنا لا نقبل هذه المخالفة، ولكن ما سبق له من الخير كان ذلك غامرًا لهذه السيئة، وحسابه على الله.

وفي دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالمغفرة يوم يقوم الحساب، تأكيد على كمال الشفقة، وعلى الإيمان باليوم الآخر، ونسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بإبراهيم -عليه السلام-، وأن يجعلنا في الرفيق الأعلى.

انتهت مقالات دعوة غيَّرت وجه الأرض.

نسأل الله التمام والقبول.