كتبه/ أبو بكر القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن من أعظم أسباب حياة القلوب: أن تأخذ بنصيبك من مجالسة أصحاب القلوب الحية، وأن تجالس مَن يذكرك بالله -عز وجل- إذا رأيته، فعن عطاء بن يسار -رحمه الله- قال: فعن عطاء بن يسار -رحمه الله- قال: "إن موسى -عليه السلام- سأل ربه، فقال: ربِّ مَن هم أهلك الذين تظلهم في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك؟ فقال الله -عز وجل-: هم الطاهرة قلوبهم، البريئة أيديهم، الذين إذا ذُكروا ذُكِرتُ بهم، وإذا ذُكِرتُ ذُكروا بي، والذين يسبغون الوضوء على المكاره، والذين يغضبون لمحارمي إذا انتهكت كما يغضب النمر إذا حَرِب، والذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، والذين ينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى أوكارها".
والشاهد ها هنا من هذا الأثر الجميل -وهو من الإسرائيليات التي تروى على سبيل الاستئناس بها، والذي هو جدير لأن نشرح كل كلمة منه-، هو قوله: "الذين إذا ذكروا ذُكِرتُ بهم، وإذا ذُكِرتُ ذُكروا بي"، فأهل الله هم الذين إذا ذُكروا يُذْكَر الله -عز وجل-، الذين إذا رأوا ذُكر الله --تبارك وتعالى--، سُئِلَ رَسُولُ اللهِ --صلى الله عليه وسلم--: مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ) (رواه البيهقي والبزار، وصححه الألباني).
وهذا يكون من نقاء القلوب وصفاء الأرواح التي تنضح على الوجوه، وتنضح على الأقوال والأفعال، والسلوكيات، قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وبسطة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق" (انتهى).
فالطاعة لها نور يجده صاحبها في قلبه، ويجد طعم الحياة الحقة وطعم السعادة في قلبه، وكلما كان أكمل طاعة لله كان أكمل حياة، وأكمل نورًا، وأكمل عبادة، وهذا الأمر لا يتوقف عليه هو شخصيًّا، بل يصبح طاقة نور، وطاقة حياة، وطاقة سعادة متنقلة، يعدي كل مَن حوله بالنور والسعادة، وحب الحياة.
وحب الحياة ليس المقصود به حب الدنيا والتعلق بها؛ إنما حب الحياة التي فيها يطيع الله، التي فيها يثق بالله، ويحسن ظنه بالله، فيرضى بالله، وعن الله، وعن أقدار الله، وأقضية الله، وأرزاق الله، فيعيش قانعًا راضيًا، مبتهجًا، حسن الظن بالله -عز وجل-، راجيًا، خائفًا، صادقًا، مخلصًا لله -عز وجل-، ومثل هذا الشخص لا يستأثر بهذه السعادة لنفسه فقط، بل ينقلها لغيره، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)، فهو يكون داعيًا إلى الله وسببًا لسعادة الناس، وسببًا في أن يذوق الناس من نهر الحياة وطعم السعادة، فيكون سببًا لكي يستجيب الخلق لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار) (متفق عليه).
فهذا العبد المؤمن دينه أغلى عنده من شحمه ولحمه وأعصابه، ودينه أغلى عنده من كل شيء، حتى وإن عذب وقطع فإنه لا يتخلى عن دينه، فيثبت حتى لو كفر أهل الأرض جميعًا، ولو عصى أهل الأرض جميعًا، ولو أعرض أهل الأرض جميعًا ومالوا عن دين الله -تبارك وتعالى-؛ فهو نسيج وحده طائع لله ولو كان غريباً؛ لأنه يستأنس بالله -تبارك وتعالى-، ومع ذلك فهو لا يكتفي بذلك، بل يدعو إلى الله -عز وجل-، ويبلغ رسالات الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري)، وقال: (نَضَّرَ اللهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِل فِقْهِ لَيْسَ بِفَقِيهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال الله -تبارك وتعالى-: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ، وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهُ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.