كتبه/ أبو بكر القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق أن مِن أعظم أسباب حياة القلوب: أن تأخذ بنصيبك من مجالسة أصحاب القلوب الحية، ومن الأدلة على ذلك:
قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَنَهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: ??)، وكلما صبرت نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه اقتديت بنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا كان أمرًا من الله -تبارك وتعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أصلًا هو سبب هداية هؤلاء الذين سيصبر نفسه معهم ويجالسهم، فما بالك إذا صبرت نفسك مع مَن تحتاج إليهم ليكونوا سببًا في هدايتك، وسببًا في أن تتعلم دين الله؛ ألست أولى وأحوج إلى ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
ولذلك لما جاء الموت معاذ بن جبل -رضي الله عنه- كان يقول: "اخْنُقْ خَنْقَكَ، فَوَعِزَّتِكَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ" (الطبقات الكبرى لابن سعد). وعن أبي الحباب قال: "لما احتضر معاذ قال لخادمته: "ويحك ! هل أصبحنا؟ قالت: لا. ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظري. فقالت: نعم. قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار ثم قال: مرحبًا بالموت! مرحبًا بزائر جاء على فاقة! لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لكري الأنهار، وغرس الأشجار، ولكن لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ومزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر" (العقد الفريد).
فكان معاذ -رضي الله عنه- وهو مَن هو يزاحم العلماء بالركب في مجالس الذكر، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا) قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (حِلَقُ الذِّكْرِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فحلق الذكر، ومجالس العلم، والعقيدة والفقه، والحلال والحرام، والأصول، والتفسير، والسيرة؛ هذه المجالس هي التي يعرف بها دين الله -عز وجل-، وبها تستصلح القلوب، وبها تعرف آفات القلوب وأمراضها فتحذرها، وبها تعرف أعمال القلوب الواجبة، والمستحبة، فتسعى لتحصيلها وتكميلها لكي تسير إلى الله -تبارك وتعالى- .
كان جعفر بن سليمان يقول: "كنتُ إذا أحسست بقساوة في قلبي، أذهب إلى محمد بن واسع، فأنظر إلى وجهه نظرة، فأخشع على أثرها أسبوعًا!"؛ يعني لا يحتاج إلى خطب ولا دروس، بل كان بمجرد النظر في وجه محمد بن واسع يخشع أسبوعًا! وكان عبد الله بن المبارك يقول: "إذا نظرتُ إلى الفضيل بن عياض جدد لي الحزن ومقتُّ نفسي!"؛ كان مجرد النظر إليه فقط، ليس حتى يسمعه وهو يعظ أو يتكلم؛ فكيف هذا؟! لأن سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
الناس تعتقد أنها الزبيبة التي تكون في جبهة الإنسان، لا، بل أثر السجود هو السكينة والنور والوضاءة التي في الوجوه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، فأثر هذه النضارة التي في الوجه من العلم والعمل والدعوة إلى الله، النضارة التي في الوجه من ذكر الله جَلَّ وَعَلَا، وقيام الليل، وصيام النهار.
قيل للحسن البصري -رحمه الله-: "ما بال قوام الليل أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم نورًا من نوره".
فمن أسباب حياة القلوب، وأسباب الاغتراف من نهر الحياة: أن تجالس الصالحين، فانظر إلى من تخالل، ومن تصاحب، ومن نافسك في الدنيا؛ فألقها في نحره، ومن نافسك في الآخرة فنافسه فيها، ولا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي.