كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).
الفائدة الخامسة:
قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) دليل على أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استغفر لأبيه ولم يغفر الله له، والذين تأوَّلوا أن آزر كان عمه يرد عليهم: بأن كلَّ المواضع التي ذَكَر الله فيها أبا ابراهيم لم يذكر مرة واحدة أنه عمه، بل في كلِّ المواضع ذَكَر الله أنه أبوه، وليس على سبيل الاحترام، بل على سبيل الخبر؛ فلا دليل على هذا التأويل فهو باطل.
فالقرابة من الصالحين ولو كانوا أنبياء، والاستغفار من الأولياء الأقارب ولو كانوا أنبياءً أو رسلًا ولو كان حتى خليلًا لله، لا ينفع المشرك الذي مات على الشرك وقد بلغته الدعوة، فالواجب على كلِّ مؤمن أن يجتهد في دعوة أقربائه إن وُجِد فيهم مشرك، وكذا إذا وُجِد فيهم عاصٍ؛ لأن فرصتهم الوحيدة أن يتوبوا إلى الله -عز وجل- ويدخلوا في الإسلام قبل الموت، وإن كان العصاة يجوز الاستغفار لهم والترحم طالما لم يكونوا كفارًا.
الفائدة السادسة:
دَلَّت الآية على أن الله قد لا يستجيب بعض دعاء أنبيائه ورسله؛ ليكون ذلك دليلًا على التوحيد، فقد استغفر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وهو حي حتى يهديه الله فلم يستجب له، ولم يهده الله ومات على الكفر، واستغفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب وكان يحب أن يهتدي إلى الإسلام فلم يهتدِ، ولم يُغفر له، ونُهي عن ذلك -صلى الله عليه وسلم- رغم شدة حبه لإسلامه وهدايته؛ لأن الله -عز وجل- أعلم حيث يجعل هدايته، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوام ولعنهم؛ فأنزل الله -عز وجل- عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)، فتاب الله -عز وجل- عليهم، ولم يستجب له -صلى الله عليه وسلم- في عذابهم، بل هداهم وأتى بهم؛ فالملك لله وحده هو الفعَّال لما يريد، لا شريك له في ملكه وأمره.
وإن كان دعاء الأنبياء والصالحين وهم أحياء مِن أعظم الوسائل والأسباب في إجابة الدعاء، لكن لا بد من تعلُّق القلب بالله وحده لا شريك له، ولا يجوز لأحدٍ أن يجزم أن أحدًا لو دعا لأحدٍ أو على أحدٍ، فلا بد أن يستجاب له، بل الامر كله لله وإليه يرجع -سبحانه وبحمده-.
الفائدة السابعة:
في قوله -تعالى-: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ): دليل على فضل الوفاء بالوعد، ولو كان لكافرٍ، وكذا العهود؛ فإن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- لا تغدر، ولا تخلف الوعد، كما قال -تعالى- عن إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 54)، وكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينقض العهد، ولا يخلف الوعد ولو مع الكفار، وهذا من أدلة نبوته، وقد استدل هرقل بذلك على نبوته -صلى الله عليه وسلم- كما في قصة كلامه مع أبي سفيان، وسؤاله: هل يغدر؟ فقال: لا. قال: وكذلك الرسل لا تغدر.
فالواجب على المؤمن أن يفي بوعده دائمًا في وقته، وبالصفة التي وَعَد بها، ويفي بالعهد أيضًا ولا يغدر، ولو كان مع كفار وظلمة ومعتدين؛ فإن أبا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان معتديًا عليه مهدِّدًا له، متوعدًا له على نصيحته؛ قال -تعالى-: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46-47).
المسألة الثامنة:
مدح الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بأنه أواه حليم في موضعين من القرآن، هذا واحد منهما، والثاني في سورة هود في شأن قوم لوط، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 74-76)، مع أنه -سبحانه وتعالى- لم يستجب له في الموضعين؛ لا لعدم استحقاق إبراهيم لإجابة دعائه، بل هو مسبِّح دَعَّاء عابد، خاشع متضرع، ولكن كان المانع في المدعو لهم؛ فهم الذين لا يستحقون الهداية، ولا تصلح لهم، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعل هدايته، هو أعلم بالمهتدين.
وهذا يدل على أنه رغم عدم استجابة دعائه -عليه الصلاة والسلام-؛ إلا أن الله -تعالى- يحب فيه الصفات التي جعلته يدعو لمَن دعا لهم بهذه الأدعية؛ فإن كثرة الدعاء وكثرة التسبيح، وكثرة العبادة، والتضرع والخشوع، واليقين، والرحمة بعباد الله والحلم عنهم، وحب هدايتهم؛ كل هذه الصفات يحبها الله، حتى ولو كان المدعو لهم والذين تُرجى لهم الرحمة ليسوا أهلًا لذلك، لكن الله يحب مِن عباده المؤمنين هذه الصفات، وهو -سبحانه- يفعل ما يشاء، فلا تكونوا أيها الدُّعَاة إلا رحماء حلماء، ولتكن دعوتكم إلى الله مصحوبة بحب هداية الخلق ورحمتهم، وكونوا حلماء عنهم وليس أن تحبوا عقابهم، وإنما طلب موسى -صلى الله عليه وسلم- عقاب فرعون وموته على الكفر حين قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 88)؛ إنما كان ذلك بعد كفر وعناد، وجبروت شديد، وإعراض عن الحق من فرعون رغم تيقنه به هو وقومه، وكان في بقائه إضلال عن سبيل الله، وقد ضَمَّن موسى -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر، فقال: (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، والله لا يحب ذلك؛ فلذا دعا عليهم بالهلاك، وذلك لأن في بقائهم إضلالًا لعباد الله -عز وجل-.
وكذا نوح -صلى الله عليه وآله وسلم- في دعوته على قومه بعد أن أوحى الله -عز وجل- إليه: (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (هود: 36)، فلما عَلِم أنهم لن يهتدوا وسيظلون على الكفر، دعا عليهم بالهلاك بعد إعراض تسعمائة وخمسين عامًا؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26-27)، فكان الدعاء بهلاكهم؛ لأجل أن لا يضلوا أحدًا، وأما هم فلا يهتدون.
فهل وجدتم أيها الدُّعَاة مِن الناس الذين تدعونهم إعراضًا وكفرًا كهذه المدة، وبهذا العتو والجبروت؟!
ثم الله أعلم بالظالمين، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالمهتدين، يفعل ما يشاء، هو يحب منكم أن ترحموا الخلق وأن تحلموا عنهم، وهو -عز وجل- أعلم بهم، فقولوا كما قال مؤمن آل فرعون بعد نصحه وحرصه على هداية قومه وخوفه عليهم من عذاب الدنيا والآخرة، فأعرضوا ولم يقبلوا نصيحته: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 44).
الفائدة التاسعة:
قوله -تعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) دَلَّ وصفه -تعالى- لأبي بأنه (عَدُوٌّ لِلَّهِ): أنه مهما كان القريب محبوبًا لله -عز وجل-، لكن كان قريبه مخالفًا في الدين؛ فإنه يوصف بعداوة الله -عز وجل-، وكذا عداوة المؤمن؛ ولو كان أبًا أو ابنًا، كما قال -عز وجل- لنوح -عليه الصلاة والسلام-: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46).
ودَلَّ قوله -عز وجل-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) على وجوب البراءة من المشركين، وذلك يتضمن البغض والعداوة، وعدم الطاعة، والمخالفة في الهدي الظاهر والباطن، وعدم التشبه بهم، وعدم النصرة، وعدم الصداقة؛ فكل هذه المعاني داخلة في قوله -سبحانه وتعالى-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ).
وهذا أعظم مسائل الدين؛ البراءة من الشرك وأهله، والبعض في زماننا يخطئون خطأً بيِّنًا حين يقولون: نحب حميع الناس ولو كانوا كفارًا ونتبرأ من كفرهم، أو نبغض كفرهم؛ كأن الكفر شيء في الهواء لا يحصل في واقع الناس وفي حياتهم!
وقد ذكر الله -عز وجل- براءة إبراهيم من أبيه وقومه، وهم أشخاص معينون كما قال -سبحانه-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف: 26-27)، وظن هؤلاء أن هذا يخرجهم من حرج الاتهام بالكراهية عند القوم المجرمين؛ لأنهم يحرِّمون الكراهية، ولو كانوا يطبقون ذلك ضد المسلمين بأبشع الصور ويكرهون الإسلام وأهله، ومع ذلك يجرِّمون أن تصرِّح بكراهية أهل دين، أو بكراهية الدِّين نفسه، وظن هؤلاء أن ذلك مخرج لهم وليس بمخرج! وهو مخالف لنصوص الكتاب والسُّنة في البراءة من أعيان الكفار، ومِن عموم أشخاصهم؛ طالما بقوا على الكفر.
نسأل الله العافية.