كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن المسلك الممجوج غير المستساغ هو التّكلف والتّمحل، والتعسف في تطبيق مفهوم المجاز وحقيقته الاصطلاحية على ما أُريد به معناه الحقيقي؛ لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان، خاصة في القرآن المجيد؛ إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية، تصيدًا لمعانٍ قد لا تُراد، ووجوه لا تُسْتَحْسن، وعلاقات قد لا تُسْتَصوب، ومن هنا كانت الجناية في ادّعاء المجاز في آيات الصفات الإلهية؛ لأنها من باب الحقيقة ولا سبيل للمجاز إليها.
وهو ما يتضح بالآتي:
أولًا: الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز، وهذه القاعدة أصل أصيل، وركن ركين في التفاهم وإبرام الكلام وعقده، وما يترتب عليه من التزامات، قال الله -عز وجل-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقال -سبحانه-: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (الزمر:28)، يعني: غير ذي لبس.
قال الشافعي -رحمه الله-: "فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية" (الرسالة).
ولغة العرب بها الحقيقة وهي الأصل، وبها المجاز ولا يصار إليه إلا بقيام قرينة معتبرة مع عدم وفاء الحقيقة بالمعنى وإلا كانت الجناية في حق البيان، ويوضح شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت ???هـ) في كتابه: (نفائس الأصول في شرح المحصول) معنى هذه القاعدة بقوله: "قلنا: معنى قوله: (الأصل في الكلام الحقيقة، أي: هي المتبادرة في الذهن)، والمعنى الذي يسبق إلى الأفهام السليمة العارفة بلغة الخطاب، أو المعنى الراجح من الكلام. ويراعى في معرفة الظاهر أربعة أمور: دلالة اللفظ، دلالة السياق، حال المتكلم، سائر القرائن المحتفَّة بالخطاب.
وفي مدونة أحكام الوقف الفقهية: (وبما أن "الأصل حمل الكلام على الحقيقة" فإن ظاهر اللفظ هو: الحقيقة المتبادرة إلى الذهن؛ إلا أن يكون للفظ معني عرفي شائع، فيصبح حقيقة عرفية تُقَدَّم على المعنى الظاهر بدلالة اللغة).
أو يكون له معنى شرعي فيصبح حقيقة شرعية تقدم على المعنى الظاهر بدلالة اللغة.
ويبين حديث عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ -المتفق عليه- أن الحقيقة هي المعاني المتبادرة إلى الذهن حيث قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة: 187)، قَالَ: عَمَدْتُ إِلَى عِقَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ، وَالْآخَرُ أَبْيَضُ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادِي، قَالَ: ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَا تُبِينُ لِي الْأَسْوَدَ مِنَ الْأَبْيَضِ... فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ).
ولم يكن هذا الفهم لحقيقة اللفظ المتبادرة للذهن عن عدي فحسب، بل ورد ذلك عن غيره كما عند البخاري ومسلم: (فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ).
وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام:82)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ، قَالَ: (لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13)، فهذه روايات صريحة في حمل الصحابة الألفاظ على حقيقة معناها المتبادر إلى الذهن.
قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري عن قوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما}: "فَإِذَا قَالَ: (تَكْلِيمًا) وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي تُعْقَلُ".
وقد راجعتُ ما يُقَارب مِنْ مائةٍ وخمسين موضعًا في كتبِ الأُصُول والتفسير واللغة تؤكد على هذه القاعدة وتنص عليها، حتى كاد لا يخلو من ذكرها والتأكيد عليها كتاب أصولٍ أو تفسير أو بلاغة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.