كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).
ونستكمل في هذا المقال النقول عن أهل العلم في مسألة وجوب إقامة الحجة الرسالية، والعذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -عن طوائف من أهل البدع: كالخوارج، والرافضة، وغيرهم-: "وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يُعلَم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا.
وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. وقد بسطتُ هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ)، مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفِّر العلماء مَن استحل شيئًا مِن المحرمات؛ لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكثير مِن هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفِّر مَن قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره. والله أعلم" (مجموع الفتاوى 28 /500-501).
(قلتُ: وهذا دليل واضح على العذر بالجهل في مسائل التكفير في أحكام الدنيا والعذاب في الآخرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله).
وقال -رحمه الله-: "والتكفير هو مِن الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا.
وكنتُ دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ).
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغُفِر له بذلك" (مجموع الفتاوى 3/ 231).
وقال أيضًا في الرد على البكري: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال" (الرد على البكري 2/ 494).
وبهذه النقول الواضحة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مسائل من أصول العقيدة، وفي توحيد الألوهية، والأسماء والصفات تعرف خطأ مَن قال: إن العذر بالجهل مقصور على المسائل التي قد تخفى، مثل: مسائل المعاملات، وبعض شئون الصلاة!
وكذلك مَن يجعل الناسَ في نحو مجاهل إفريقيا وغيرها ممَّن دخل في الإسلام وأتي بشيء من الشركيات معذورًا؛ بمعنى أن حكمه حكم أهل الفترة الذين يُمتحَنون في القيامة، كما قد يُفهَم مِن بعض فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية قديمًا، فالظاهر، بل المنصوص عليه مِن كلام أهل العلم: التفرقة بين مَن دخل في الإسلام وصَدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالًا ونطق الشهادتين، وبين مَن لم يدخل فيه أصلًا ممَّن لم تبلغه الدعوة ولم يأتِ بـ"لا إله إلا الله وأصل التوحيد"؛ فالذي دَخَل في الإسلام ونطق الشهادتين وصدَّق الرسولَ صلى الله عليه وسلم إجمالًا عنده أصل الإيمان والدين، والثاني كافر معذور لعدم بلوغ الرسالة؛ فلا يصح أن يجعل الأول من أهل الامتحان وهو قد آمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما وقع فيه مِن الشرك؛ فإن حكمه يسقط في حقه؛ لعذره بعدم بلوغ الحجة الرسالية، ولو كان مُقَصِّرًا في طلب العلم -مع تمكُّنه من ذلك-؛ لكان آثمًا، لكن لا يُعَامَل معاملة الكافر.
وأما قضية الخفاء والظهور التي اشترطها بعض مشايخ الدعوة النجدية -كالشيخ: أبي بطين غفر الله له-؛ فإن الظهور والخفاء أمر نسبي، فما يظهر لهؤلاء القوم يكون خافيًا عند آخرين، وما يظهر في هذا البلد يكون خافيًا في بلد أخرى وما يظهر لقوم نشأوا في وسط أهل البدع يختلف عن الذي ظهر لقوم نشأوا في وسط أهل السنة، وإن كنا لا نقصد بأن هذا الأمر نسبي: أن كلَّ الأمور كذلك، فلا يكون فيها مطلق، بل هناك ما يقطع ويقطع كل أحدٍ بانتشاره بين المسلمين، والذي لا يقبل دعوى الجهل فيه إلا بقرينة -كما سبق أن بيَّنَّا-، وذلك مثل: تعظيم القرآن، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الدين عند الله الإسلام، ونحو ذلك مما انتشر علمه بين المسلمين؛ فمن كان ناشئًا اليوم في بلادنا ثم جحد وجوب الصلاة مثلًا أو بعضها -كمَن يفتي بأن الصلوات الخمس ليست واجبة، وإنما تجب صلاة في الصباح وفي المساء-؛ فهذا لا شك في كفره؛ لأنه مخالف للمعلوم للدِّين بالضرورة الذي انتشر علمه بين المسلمين.
وكذلك مَن قال عن أحكام الإسلام في الجلد والرجم والقطع: إنها من نفايات القرون الوسطى الوحشية! أو قال بأن الزنا واللواط طالما كانا بالتراضي؛ فهو من حقوق الناس يجوز لهم أن يفعلوهما إذا تراضوا عليها؛ فلا شك في ردة مَن قال ذلك مِن ساعته؛ لأن الحجة بمثل ذلك قائمة على كلِّ أحدٍ، ولا يتصور خفاؤها.
وفي بعض بلاد المسلمين التي انتشرت فيها دعوة التوحيد، والتحذير من شرك عبادة القبور، تكون هذه المسائل منتشرة في تلك البلاد؛ أما في غيرها، فكثير من بلاد المسلمين اليوم ينتشر فيها الجهل والتلبيس بالباطل مِن علماء سوء الذين يلبِّسون على العوام، وخاصة في مسائل الغلو في الصالحين، فيلتبس الأمر عندهم بحب الصالحين بالغلو فيهم وصرف العبادات لهم من دون الله، وكذلك قضية الحكم بالشريعة دون القوانين الوضعية؛ هناك في بعض البلاد -أو كثير منها- تلبيس على الناس في هذا الأمر، ونحو ذلك مما يشك فيه مَن خالط هؤلاء الناس، فلا يمكنه تكفير أعيانهم حتى تبلغهم الحجة الرسالية التي يكفر منكرها.
والحجة الرسالية تنقسم إلى أقسام؛ فهناك الحجة التي انتشر علمها فهي مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه يكفر مخالفها، وهناك حجة رسالية قطعية غير معلومة من الدين بالضرورة كالتي انتشرت عند العلماء، لكن لم تبلغ عامة الناس؛ فهذه يضلل مَن خالفها ويبدع ويأثم؛ لأنه خالف أهل العلم وترك سؤالهم وقصر، وهناك حجة رسالية لم يُجمَع عليها وليست قطعية ككثير من مسائل الأحكام، وكل فريق يحتج بحجة رسالية بفهمه لنصوص الكتاب أو السنة، ومع ذلك فلا يضلل ولا يبدع المخالف؛ لأن هذه الحجة ليست قطعية ولا منتشرة العلم، وإنما هي محل اجتهاد.
فالمقصود بالحجة الرسالية التي يكفر منكرها: النوع الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، والنوع الثاني إذا علمه صاحبه وأقر بعلمه؛ فهذا الذي يعامل بناءً على ذلك. والله أعلم.
وللحديثة بقية إن شاء الله.