الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 21 سبتمبر 2022 - 25 صفر 1444هـ

حقائق العلم والوجود في القرآن (١)

كتبه/ محمود أمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فحقائق الوجود نقصد بها معرفة الهدف والغاية من الوجود والخلق، ومعرفة الأمور على حقيقتها دون زيف أو خداع أو تزيين، وفصل الاختلاف فيها فيما اختلف فيه الناس.

والعجب: أن الناس يبحثون في حياتهم عن الحقيقة، عن حقيقة السعادة والغنى، وحقيقة الوجود من خلال نظرتهم القاصرة وتصوراتهم الفاسدة أو تجارب مَن سبقهم مِن آباء، ويغفلون الحقيقة الكاملة في القرآن؛ لأن تجارب البشر تصيب وتخطيء، وكثير من اعتقادات السابقين لا تبنى على أثارة من علم أو هدى أو كتاب منير، ويشوبها اتباع الأهواء والإرادات الفاسدة؛ فكيف ركنوا إليهم وتركوا الوحي المنزل الذي هو من لدن عليم حكيم خبير؟!

إن القرآن فيه حقائق الوجود وحقيقة العلم، وهذه نقطة مهمة غفل عنها حتى الباحثون في سلم العلم وأنواع العلوم؛ سواء في علوم الوسائل أو المقاصد، في علوم الآلات أو الغايات، في اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا، وذلك لبدهية واضحة هي أن القرآن تنزيل من رب العالمين، تنزيل من حكيم حميد، تنزيل ممَّن خلق الأرض والسماوات العلى.

فهل نسيت يا مَن تؤمن بالقرآن، يا مَن أسلمت وجهك لله هذه الحقيقة، فصرت تبحث في علوم البشر وجعلته مقدمًا وحاكمًا، ونسيت العلم الذي هو من لدنه عز وجل: "الر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم عليم".  

وليس المقصود أن لا ننتفع بالتجارب، أو نهدم علوم الطب والفلك والجغرافيا، أو نترك ما استقرت فيه العقول والمعارف من أنواع الخبرات ولو بظن راجح، ولكن المقصود: أن أول ما يجب عليك معرفته وتقديمه هو العلم الذي في القرآن؛ لأنه قطعي في نسبته ومصدره؛ فهو كلام الله لا ريب فيه، بلَّغه إلينا أكرم الملائكة جبريل، وأصدق البشر وأفضل الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وتواتر لدينا تواترًا قطعيًّا بتلقي الأمة جيلًا بعد جيل حتى تواترت حروفه وألفاظه سورة سورة، وآية آية.

وهذا من خلال فهم معانيه بدراسة التفسير، ومعرفة بيان القرآن ومعانيه، وقد نقل لنا علماء السلف معاني القرآن من خلال فهم مَن نزل عليهم القرآن، ونزل بلغتهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهود لهم بالفضل والسبق في القرآن، فإذا أجمعوا كان إجماعهم حجة، وإذا اختلفوا عمل بما وافق الكتاب والسنة منها.

وقد اعتنى العلماء بنقل كلامهم في كتب التفسير: كابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري، وغيرهم، ثم جاء بعد ذلك ابن كثير فاختصر كلام الطبري، وأضاف إليه ذكر الأحاديث التي جاءت بمعاني الآيات من السنة أو شارحة وموضحة ومبينة لها؛ لأن القرآن قد دلنا على اتباع السنة، وأخبر أنها وحي من عند الله.

هذا مع أن القرآن بيِّن واضح في معانيه ميسر للذكر لذلك؛ فآيات القرآن يفسِّر بعضها بعضًا، ولكن لما حصلت العجمة في اللسان بعد اختلاط العرب بالعجم، احتاج المسلمون إلى دراسة اللغة وتراكيب الجمل وإعرابها ليصح لهم فهم لغة القرآن، وهذا طريق واضح في فهم القرآن أن يفسر القرآن بالقرآن، وبالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ولغة العرب.

فإذا سار الدارس والباحث والمتعلم للقرآن على هذه الطريقة في فهم القرآن استقام له الاستدلال، وعرف ما أجمع على معناه، وأما ما اختلف في معانيه على أقوال؛ التزمها دون زيادة عليها، وكان الترجيح بينها بقواعد الترجيح عند أهل العلم، وعلى الجاهل سؤال أهل العلم كما قال الله سبحانه وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".

والغرض من هذا: أن الإحالة على اتباع القرآن في الفهم وتقديمه في كلِّ شيء كمصدر ومرجع ودليل في جميع أنواع العلوم التي جاء بيانها في القرآن؛ هذه الإحالة ليست إحالة على أمر لا سبيل له كما يقول الجامدون من أصحاب بدعة التعصب المذهبي المذموم الذين جعلوا القرآن يقرأ للتبرك، وأما العمل والحجة فبأقوال أئمتهم وشراح مذهبهم ومحرريه، ودون وصول الطالب إلى فهم القرآن مفاوز تنقضي دونها الأعمار، فهجروا ذكر الأدلة في تأليف الكتب، وفي شرح المسائل وتعليمها، وفي العمل بها، فصار الطالب يقرأ القرآن لا يفهم معناه، وهو يحفظ أقوال أئمة المذهب عن ظهر قلب، ويعرف مواطن الخلاف عندهم، ومتى قالوا، وأين قالوا.

وهذه البدعة حصلت عند المتأخرين من أتباع المذاهب الذين هجروا الأدلة بدعوى غلق باب الاجتهاد؛ ولذلك إذا طالعت كتب المذاهب، تجد الاستدلال بالكتاب والسنة في كتب الفقه كثيرًا عند المتقدمين، ثم هو أقل عند المتوسطين، حتى هجر وضعف تمامًا عند المتأخرين منهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذا الانفصال أدَّى إلى أن هجرت معاني القرآن في العمل، وأصبح يقرأ فقط للتبرك؛ حتى صار بعضهم يقرأ آيات التوحيد في قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا"، وقوله تعالى: "أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلًا ما تذكرون"، وهو مقيم على أنواعٍ مِن الشرك بصرف العبادة لغير الله، وطلب كشف الضر وجلب النفع من الأضرحة والقبور.

وللحديث بقية إن شاء الله.