الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 13 يوليه 2022 - 14 ذو الحجة 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (74) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ‌وَلَا ‌أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) (النساء: 123-126).

قال ابن جرير رحمه الله بسنده عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "لما نزلت -يعني قوله الله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)- قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصائب في الدنيا".

طريق أخرى عن الصديق: قال ابن مردويه عن مسروق قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء".

قال ابن جرير عن أبي بكر: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به؟! فقال: "يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة".

حديث آخر: قال سعيد بن منصور عن عائشة: أن رجلًا تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: إنا لنجزى بكل عمل؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم، يجزى به المؤمن في الدنيا، في نفسه، في جسده، فيما يؤذيه".

طريق أخرى رواها ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن، فقال: "ما هي يا عائشة؟" قالت: قلتُ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" رواه ابن جرير.

طريق أخرى: روى أبو داود الطيالسي عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقالت: ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عائشة، هذه مبايعة الله للعبد، مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها، فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير".

طريق أخرى: روى ابن مردويه عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفيظ عند الموت". -الفيظ: يقال فاظت وفاضت روحه لغتان، إذا خرجت روحه-.

وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه".

حديث آخر رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة؛ حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها" هكذا رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ‌وَلَا ‌أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء. قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه".

وقال عطاء بن يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن مِن نصب ولا وصب، ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر به من سيئاته" أخرجاه (البخاري ومسلم في صحيحهما).

حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا؟ ما لنا بها؟ قال: "كفارات". قال ‌أُبَيٌّ -يعني ‌أُبَي بن كعب-: وإن قَلَّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها"، قال: فدعا أبي على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت (الوعك ارتفاع درجة الحرارة، أي: الحمى)، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره؛ حتى مات رضي الله عنه. تفرد به أحمد.

حديث آخر: رواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)؟ قال: "نعم، ومَن يعمل حسنة يجزى بها عشرًا، فهلك مَن غلب واحدتُه عشرًا".

وروى ابن جرير عن الحسن: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: الكافر، ثم قرأ: "وهل نجازي إلا الكفور"، وهكذا روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير: أنهما فسَّرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا.

(قلتُ: الأحاديث السابقة الصحيحة تدل على فهم الصحابة رضي الله عنهم للآية على عمومها، وتأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكن ذَكَر تكفير السيئات بالمصائب؛ فدل ذلك على أن العبرةَ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإننا قد رجَّحنا أن الخطابَ في قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ‌وَلَا ‌أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أنه خطاب للمشركين وأهل الكتاب، ولكن القاعدة الكلية العامة في قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) على عمومها كما بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنزاع كان بين المشركين وبين أهل الكتاب أيهم أحسن دينًا؛ ففلج الله حجة المسلمين بأن بيَّن أن أحسن الدِّين هو مَن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا، ومع ذلك بقي قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

وأما قول ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير والحسن أن ذلك هو الشرك فنعم؛ لأن الشركَ أعظم سيئة، وهي السيئة التي لا ينجو الإنسان إذا مات وهو عليها ولم يتب إلى الله عز وجل منها، فلا بد أن يجزى بهذه السيئة عذاب الخلود في النار، ولا يمنع من ذلك: أن السيئات دون الشرك داخلة في عموم الآية ويُجزَى بها المؤمن بالمصائب، وأما الكافر فيُمتَّع في الحياة الدنيا، فيلقى الله عز وجل ولم يُخَفَّف عنه شيء).

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه ابن أبي حاتم. والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال، لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم".

وللحديث بقية إن شاء الله.