كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ابن محيريز من الطبقة الثانية للتابعين بالشام، وهو من الشيوخ الذين تلقَّى الأوزاعي منهم، وطالب الأمة بالاقتداء به، وأوجز صفاته بقوله عنه: "مَن كان مقتديًا؛ فليقتدِ بمثله، فإن الله لا يضل أمة فيها مثله!".
وقد اشتهر عبد الله بالعبادة والإكثار من قراءة القرآن، واعتزال الفتن، وقد ذكر ابن كثير بعد وصفه باعتزال الفتن مباشرة بأنه "كان لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فقد يظهر التعارض بين الوصفين؛ لأن الاعتزال يعني السلبية، بينما مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيجابية ومجابهة، وتصرف إزاء المواقف التي تستلزم تطبيق هذا المبدأ، ولكن ما جاء بترجمة الشيخ بالطبقات الكبرى قد يلقي الضوء على هذا التناقض ما بين العزلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقد أورد ابن سعد نصًّا على لسان عبد الله قال فيه مستنكرًا لأحد أعوان بني أمية فيما يرجَّح؛ لأنه يتضمن نقدًا صريحًا لتصرفاتهم: "يا أبا إسحاق !عطلتم الثغور، وأغريتم الجيوش إلى الحرم وإلى مصعب بن الزبير"، ونصحه السامع بالحذر، ويبدو أنه سرعان ما أخبر عبد الملك الذي استدعاه، وأمره بلزوم الصمت، وظهرت في لهجته مسحة من التهديد.
وختم ابن سعد هذا الخبر بأن ابن محيريز رأى أنه قد غنم نفسه يومئذٍ.
ويحتمل أن عبد الله بن محيريز آثر العزلة بعد هذا الحادث، ولكننا نراه -مع هذا- ينكر لبس الحرير حتى ولو كان بغرض التزين لمقابلة أمير المؤمنين.
ويعلِّق ابن محيريز بقوله: "لا تعدل بخوفك من الله خوف أحد من المخلوقين".
قيل اكتفى بتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نطاق أضيق حيث لا يتعدَّى الوعظ والنصائح بدلًا من التعرض لحكام بني أمية، ولكن خوضه في الحياة العامة لم يمنعه من الاستغراق في العبادة حتى كان يفرش له الفراش فلا ينام عليه!
واشتهر بعبادته بين أهل الشام حتى وصفه أحدهم بأنه: "إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله بن محيريز".
ترابطت إذًا حلقات الزهاد بين الأمصار المختلفة، وتبادلت التأثيرات بينهم، وتألفت من شيوخنا مجموعة مزدهرة، أصبحت عنوانًا على الاقتداء السليم بطريقة السابقين الأولين، ولمعت بالشهرة بين المسلمين كالنجوم تزدان بها حياة الأمصار، ولكن ابن محيريز رفض الآثار المترتبة على هذه الشهرة؛ فقد ذهب مرة ليشتري ثوبًا، فرفع صاحب المتجر السعر، ولكن عندما أنبأه زميل له بأن الراغب في الشراء هو ابن محيريز، انصرف مسرعًا ورفض الشراء، وتعليل انصرافه أنه أتى السوق ليشتري بماله لا ببدنه!
ويتضح لنا هنا الحرص على تطبيق المبدأ، ورفض ما يجنيه من وراء الشهرة من منافع مادية.