الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 04 أبريل 2022 - 3 رمضان 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (62) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:95-97).

إن مِن أخطر ما ينادي به أصحابُ الاختراع المحدَث الكفري فيما يسمونه -كذبًا وزورًا- بـ"الدِّين الإبراهيمي": هو عدم خصوصية الأماكن المقدسة، بل تشترك كل الطوائف في تقديس أماكنها جميعًا، مع أن هؤلاء اليهود لا يعظِّمون بيتَ الله الحرام، ولا يقصدون الكعبة المُشَرَّفة في صلاتهم، ولا يرون حجًّا ولا عمرة، وكذا النصارى؛ رغم أن أنبياءهم الذين مضوا قد حجوا بيت الله الحرام، وعيسى -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان ليحجن إلى بيت الله الحرام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّ بوادي الأزرق فسأل: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: ‌هَذَا ‌وَادِي ‌الْأَزْرَقِ، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ -يعني: ليفًا- وَهُوَ يُلَبِّي) (رواه مسلم).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ ‌بِفَجِّ ‌الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيُثَنِّيَنَّهُمَا) (رواه مسلم).

وهذه المسألة قد بيَّنها الله -سبحانه وتعالى- في القرآن العظيم ردًّا على اليهود والنصارى قديمًا في انتسابهم إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من غير اتباع ملته، ومن غير تعظيم لبيت الله الحرام، والكعبة المشرفة التي بناها.

وبيَّن -سبحانه وتعالى- وجوبَ الحج على كلِّ الناس إن استطاعوا إليه سبيلًا، فكذلك ينبغي أن نستدل بها على بطلان ما يدَّعونه من الدِّين الإبراهيمي المزعوم؛ لأنهم لا يعظِّمون الكعبة، ولا يرون الحج إلى بيت الله الحرام، ولا يرون الكعبة قبلة؛ فلا تصح لهم نسبة إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وإلى دينه إلا باتباع ملته، وهي: "التوحيد والاتباع لنبيه -صلى الله عليه وسلم- محمدٍ خاتم النبيين"، وكذا لا بد لهم من الحج إلى بيت الله الحرام.

وقوله -تعالى-: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: قل يا محمد: صدق فيما أخبر به، وفيما شرعه في القرآن على لسان محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأتِ نبيٌّ بأكمل منها، ولا أبين، ولا أوضح ولا أتم، كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:161)، وقال -تعالى-: (‌ثُمَّ ‌أَوْحَيْنَا ‌إِلَيْكَ ‌أَنِ ‌اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123).

وقوله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ): يخبر -تعالى- أن أول بيتٍ وُضِع للناس، أي: لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده، (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعني: الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي يزعم كلُّ مِن طائفتي: النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه؛ ولهذا قال: (مُبَارَكًا) أي: وضع مباركًا، (وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ).

وعند الإمام أحمد -بسنده- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ ‌فَصَلِّ، ‌فَكُلُّهَا ‌مَسْجِدٌ) (وأخرجه البخاري ومسلم).

وقال ابن أبي حاتم عن علي في قوله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)، قال: كانت البيوت قِبْلَة، ولكنه كان أول بيت وُضِع لعبادة الله.

وروى أيضًا ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي، فقال: ألا تحدثني عن البيت: أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت.

وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقًا.

والصحيح قول علي -رضي الله عنه-؛ فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه: "دلائل النبوة" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس؛ فإنه كما ترى مِن مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف. والأشبه -والله أعلم- أن يكون هذا موقوفًا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك مِن كلام أهل الكتاب.

وقوله -تعالى-: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ): من أسماء مكة على المشهور، قيل: سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، يعني: أنهم يزلون بها ويخضعون عندها. وقيل: لأن الناس يتباكون فيها، أي: يزدحمون.

قال قتادة: إن الله بكَّ به الناس جميعًا، ويصلي النساء أمام الرجال، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب، ومقاتل بن حيان -(قلتُ: وهذا لا يصح شرعًا، وإن وقع كونًا؛ لأن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- لم يشرِّع "لا في بيت الله الحرام، ولا في غيره": أن تصلي المرأة بجوار الرجل وأمامه، فإن ذلك منهي عنه، ويجب على النساء أن يتراجعن فيكن خلف الرجال، كما في جميع المساجد وجميع الصلوات)-، وذكر حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مكة من الفج إلى التنعيم، وبكة من البيت إلى البطحاء. وقال شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: بكة: البيت والمسجد. وكذا قال الزهري.

وقال عكرمة في رواية، وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة.

وقال أبو مالك وأبو صالح، وإبراهيم النخعي، وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت، وما سوى ذلك مكة.

وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأُمَّ رُحْمٍ، وأم القُرَى، وصَلَاح، والعَرْش على وزن بَدْر، والقَادِس؛ لأنها تطهِّر من الذنوب، والمُقدَّسَة، والنَّاسَّة والباسَّة، والحَاطِمة، والرَّأْس، وكُوثى، والبلدة، والبَنِيَّة، والكعبة.

(فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي: دلالات ظاهرة أنه مِن بناء إبراهيم، وأن الله عظَّمه وشرفه.

ثم قال تعالى: (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) يعني: الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقًا بجدار البيت، حتى أخَّره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: (وَاتَّخِذُوا ‌مِنْ ‌مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد قدَّمنا الأحاديث في ذلك -(قلتُ: يعني حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قَضَى طوافه بالكعبة نفذ إلى مقام إبراهيم، وقرأ قول الله عز وجل: (وَاتَّخِذُوا ‌مِنْ ‌مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) بجعل المقام بينه وبين البيت، وصلَّى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما بـ"قل هو الله أحد"، و"قل يا أيها الكافرون" رواه مسلم من حديث جابر وغيره)-" (انتهى من تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.