الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 23 يناير 2022 - 20 جمادى الثانية 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (52) قصة إحياء الطيور الأربعة (14)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة العاشرة:

إن هذه الآية العظيمة -إحياء الموتى- التي أراها اللهُ -عز وجل- إبراهيمَ -صلى الله عليه وسلم- قد أرى نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- آياتٍ أعظم منها في المعراج، كما قال -تعالى-: (‌مَا ‌كَذَبَ ‌الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:11-18).

ومدحه الله -عز وجل- أعظم مدحٍ، فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، فكان ما رآه مِن غير سؤال ولا تطلع منه لما أوريه، ولا زيغٍ عما يرى من هوله وعظمته، فرأى جبريل -عليه الصلاة والسلام- على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد أفق السماء، وهو المقصود بقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، والنزلة الأولى: كانت بالأفق المبين بالأرض في أجياد مكة، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) (التكوير:23-25).

وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: "رأى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جبريلَ في صورتِه وله ستُّمائةِ جَناحٍ، كلُّ جَناحٍ منها قد سدَّ الأفُقَ، يسقُطُ مِنْ جَناحِه مِنَ التهاويلِ والدُّرِّ والياقوتِ ما اللهُ به عليمٌ"، والتهاويل: الجواهر العظيمة"، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى، وما يخرج منها من الأنهار، وما يتغشاها من الفراش الذي من ذهب والألوان، ففي صحيح مسلم، من حديث أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- ذكر قصة المعراج، وفيه: (ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّادِسَةِ، فأتَيْتُ علَى مُوسَى -عليه السَّلامُ-، فَسَلَّمْتُ عليه، فقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصَّالِحِ والنبيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: رَبِّ، هذا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِن أُمَّتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرُ ممَّا يَدْخُلُ مِن أُمَّتِي، قالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فأتَيْتُ علَى إبْراهِيمَ، وقالَ في الحَديثِ: وحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه رَأَى أرْبَعَةَ أنْهارٍ يَخْرُجُ مِن أصْلِها نَهْرانِ ظاهِرانِ، ونَهْرانِ باطِنانِ، فَقُلتُ: يا جِبْرِيلُ، ما هذِه الأنْهارُ؟ قالَ: أمَّا النَّهْرانِ الباطِنانِ فَنَهْرانِ في الجَنَّةِ، وأَمَّا الظّاهِرانِ: فالنِّيلُ والْفُراتُ)، وفي غير الصحيح عن مقاتل: "الباطنان" هما: السلسبيل والكوثر. والله أعلم.

وفي رواية في الصحيح: (النِّيلُ والفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا)، وهذا يدل على أن أصل هذين النهرين العظيمين كانا في السماء ولا يزالا، ونزل منهما هذا الجزء الذي يجري في الأرض إلى الآن؛ ولذا نرجو الله -عز وجل- أن لا يضمحل هذان النهران أبدًا؛ لبركة مصدرهما، ويبقى الجزء الأكبر منهما في السماء. 

وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال: "لَمّا أُسْرِيَ برَسولِ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، اُنْتُهي به إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وهي في السَّماءِ السّادِسَةِ، إلَيْها يَنْتَهِي ما يُعْرَجُ به مِنَ الأرْضِ فيُقْبَضُ مِنْها، وإلَيْها يَنْتَهِي ما يُهْبَطُ به مِن فَوْقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قالَ: (إِذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)، قالَ: فَراشٌ مِن ذَهَبٍ، قالَ: فَأُعْطِيَ رَسولُ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- ثَلاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، وأُعْطِيَ خَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَن لَمْ يُشْرِكْ باللَّهِ مِن أُمَّتِهِ شيئًا، المُقْحِماتُ".

وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في قصة المعراج، قال: (ثُمَّ عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فقِيلَ: مَن هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: ومَن معكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، قيلَ: وقدْ بُعِثَ إلَيْهِ؟ قالَ: قدْ بُعِثَ إلَيْهِ، فَفُتِحَ لنا فإذا أنا بإبْراهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هو يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بي إلى السِّدْرَةِ المُنْتَهَى، وإذا ورَقُها كَآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالْقِلالِ (وفي رواية: "كقِلالِ هَجَر"، وهي: الجَرَّة العظيمة) قالَ: فَلَمَّا غَشِيَها مِن أمْرِ اللهِ ما غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَما أحَدٌ مِن خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْعَتَها (أي: يصفها) مِن حُسْنِها)، وفي رواية: (وغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي ما هي) (أي: من الجمال العجيب والألوان العجيبة).

وذكر النووي -رحمه الله- الجمع بين ما ورد في حديث أنس من أن سدرة المنتهى في السماء السابعة، وفي حديث ابن مسعود أنها في السماء السادسة؛ بأن أصلها في السماء السادسة، ومعظمها في السابعة، فقد علم أنها في نهاية مِن العِظَم، والله أعلى وأعلم.

ومِن الآيات التي أراها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى الجنة ودخلها، ففي حديث أنس في صحيح مسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنابِذُ اللُّؤْلُؤِ وإذَا تُرَابُهَا المِسْكُ)، وسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صريف الأقلام التي تكتب بها المقادير اليومية، كما في حديث ابن عباس وأبي حَبَّة الأنصاري عند مسلم: كان يقولان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ عَرَجَ بي حتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقْلامِ).

قال النووي -رحمه الله-: "معنى "ظهرتُ" علوت، و"المستوى" قال الخطابي: المراد به المصعد. وقيل: المكان المستوي. و"صريف الأقلام" تصويتها حال الكتابة. قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله -تعالى- ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله -تعالى- من ذلك أن يُكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره.

قال القاضي: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كُتْب الله -تعالى- من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو -تعالى- يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله -تعالى- والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله -تعالى-، أو مَن أطلعه على شيء مِن ذلك من ملائكته ورسله، ولا يتأوُّل هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان؛ إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله -تعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ويريد؛ حكمةً من الله -تعالى- وإظهارًا لما يشاء مِن غيبه لمَن يشاء مِن ملائكته وسائر خلقه؛ وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى.

قال القاضي -رحمه الله-: وفيه علو منزلة نبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السماوات دليل على علو درجته وإبانة فضله" (شرح النووي على مسلم).

ومن الآيات التي أراها اللهُ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: أنه رأى البيت المعمور ومن حوله سبعون ألفًا مِن الملائكة يطوفون حوله كل يوم لا يعودون إلى يوم القيامة، بل يأتي غيرهم كما سبق ذكر ذلك من الأحاديث الصحيحة.

 ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى مالكًا -خازن النار- وسلَّم عليه، رواه مسلم من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما-.

ورأى أرواح الأنبياء مصورةً في صورة أجسادهم، إلا عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فإنه رآه بروحه وجسده في السماء الثانية، فرأى في السماء الأولى آدم -عليه السلام-، ورأى في الثانية عيسى ويحيى -ابني الخالة-، ورأى في السماء الثالثة يوسف -عليه السلام-، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، ورأى موسى في السماء السادسة، وفي رواية: في السابعة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وفي رواية: في السادسة، والله أعلى وأعلم، ولا مانع من أن ينتقل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بين هذه السماوات.

 ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة الدجال، وكُشف له عنها، وليس معنى ذلك أن الدجال في السماء؛ بل هو في الأرض كما دل عليه حديث تميم الداري في إحدى جزر البحار الشرقية.

كل هذا رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يطلب؛ فعلمنا بذلك فضله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أفضل من جميع الخلق، وعلمنا معنى قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما كُنتُ خليلًا مِن وراءَ وراءَ) (رواه مسلم)، فخلة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم خلة من جميع الأخلاء، ومنزلته فوق جميع الخلق -صلى الله عليه وسلم-.