الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 09 يوليه 2020 - 18 ذو القعدة 1441هـ

الأردوغانيون... أوهام تفسد أديانًا وتحرق أوطانًا! (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

واقع العالمانية التركية:

تركيا تكاد تكون الدولة الإسلامية الوحيدة التي تنص في دستورها وفي مناهج تعليمها على العالمانية.

وشخصية "أتاتورك" زعيم العالمانية في العالم الإسلامي فوق مستوى النقد، ويجب على الرؤساء أن يمتدحوه ويزوروا قبره خاشعين خاضعين!

و"أردوغان" يفعل هذا.

والتطبيق الفعلي للعالمانية في شق تخلي الدولة عن أداء أيِّ دور أخلاقي يتجاوز التطبيق الموجود في كثيرٍ مِن الدول الأوربية التي لا زال عندها تجريم خرق النظام العام.

ومسيرة "سنيوة" للشواذ السنوية تتم في حراسة الشرطة، وكانت في هذا العام وقت كتابة هذه السطور، ونشرت قناة الجزيرة تقريرًا عنها، (وبالطبع الجزيرة موالية لتركيا، وبالتالي: فنقلها هنا لا يمكن أن يقال: إنه مكايدة إعلامية)، وجاء في هذا التقرير: أن التهديد الذي تخشى منه المظاهرات هم: "المتشددون".

وفي تركيا يعتبر الزنا حرية شخصية، وهو أمر ما زالت تعاني منه معظم الدول الإسلامية للأسف؛ إلا أن تركيا تزيد على هذا بمراحل في السماح بالدعارة، والاستعلان بها وتقنينها، والخمور هناك تُباع كما تُباع المياه الغازية، وكذلك صالات القمار مسموح بها!

ورغم وجود هذه القضايا في معظم بلاد المسلمين؛ إلا أنك في تركيا تجد الصورة الأكثر فسادًا واتساعًا، نسأل الله أن يطهِّر كل بلاد المسلمين مِن كل ما يخالف شرعه.

الإصلاحات الأردوغانية لم تقترب مِن العالمانية كفكرةٍ ولا مِن شيءٍ مِن تطبيقاتها، ولكن منحت حرية التدين مع كل هذا الفساد الذي كانت تركيا تأن منه منذ عهد أتاتورك تحت مسمى: "الحرية"؛ فإنها كانت في قمة القهر ضد أي مظهرٍ مِن مظاهر التدين؛ مثل كتاتيب تحفيظ القرآن، والحجاب، وغيرها.

حتى جاء "أربكان" (الذي يحلو لأنصار أردوغان أن يحذفوا جهوده من التاريخ مجاملة لأردوغان)، ثم جاء مِن بعده "أردوغان"، وتمت إصلاحات على يد كلٍّ منهما.

ولكن مِن الجدير بالذكر: أن أردوغان لم يخالف العالمانية قط شكلًا ولا موضوعًا، وإنما ينص في كل مناسبة هو ورجال دولته على أن: تركيا دولة عالمانية، وهو دائم الزيارة لقبر أتاتورك؛ يزوره خاضعًا مطأطئ الرأس مع الإدلاء بأحاديث الثناء على (مُسقِط الخلافة، وواضع النموذج العالماني الأكثر تطرفًا في العالم الإسلامي!).

إلا أن أردوغان في المقابل: أعطى الحرية لبعض مظاهر التدين من منطلق الحرية، ولا أظن أن ثمة عاقل يمكن أن ينازع في أن العالمانية التي تسمح بالعري والحجاب معًا هي (أهون شرًّا) من العالمانية التي لا تسمح إلا بالعري؛ ولكنها تبقى في النهاية عالمانية، وتبقى حُكمًا بغير ما أنزل الله.

الدولة التركية تمثِّل صورة مِن أوضح صور الحكم بغير ما أنزل الله؛ دستورًا وقانونًا، وتعليمًا وإعلامًا (الكل يقرر أن العالمانية مِن ثوابت المجتمع والدولة).

ولستُ بصدد النزاع أن تلك الصورة (الأردوغانية الأتاتوركية) هي أقل شرًّا من الصورة (الأتاتوركية الخالصة)؛ ولكن النزاع مع مَن يرى: أن تركيا كدولةٍ قد صارتْ في ظل حكم أردوغان أفضل (من الناحية الشرعية) مِن بلادٍ تنص دساتيرها على وجوب تطبيق الشريعة، وتلتزم ألا تصدر قانونًا إلا إذا وافق الشريعة، ولكنها تعاني من موروث لم تغيره - وهو قول لا أظن أنه يصدر عن عاقلٍ إن سَلِم مِن الهوى.

ولكن السؤال الآخر:

هل فعل أردوغان كل ما عليه؟

أم هل له عذر في أن تكون السلطة التنفيذية -التي هو على رأسها- هي مَن تصدر تصاريح البغاء، وتوفِّر لهن الحماية، إلخ؟!

الإجابة عند الأردوغانيين (أعني بهم: الإخوان والسروريين، ومَن دار في فلكهما) هي: الرجل يعاني مِن الجيش العالماني، ومِن الدولة العميقة العالمانية، ولا يمكنه إلا هذا القدْر.

ولستُ هنا بصدد مناقشة هذا الكلام؛ لأنه على الأقل منسجم مع بعضه البعض؛ ولكن لنتذكر جيدًا أن أصحاب هذا الفرض يقررون أنه لا يمكن المساس بالعالمانية دستورًا ولا قانونًا، ولا تعليمًا، ولا إعلامًا، ولا تصريحات حكومية، ولا إخلالًا بتبجيل أتاتورك، وأي خلل في أي جزئيةٍ مِن هذه؛ فالجيش العالماني والدولة العميقة تقف بالمرصاد.

إذًا الجيش والدولة العميقة في تركيا يريدان العالمانية الأتاتوركية الفجة، وأردوغان أضاف إليها شيئًا من المواءمة بين الفساد والصلاح.

ومِن جملة عالمانية الجيش والدولة العميقة في تركيا: أنهم بلا شك يريدون "تركيا للأتراك"؛ الشعار الذي أطلقه أتاتورك، وأنهم لا يطيقون سماع كلمة "الخلافة".

فلنحفظ هذا جيدً؛ أن هذا هو وصف (الأردوغانيين) للداخل التركي؛ ولكن يبقى السؤال الذي هو بيت القصيد في مقالتنا:

- ماذا عن تحركات الدولة التركية ضد الأكراد في سوريا؟

- وماذا عن تحركها في ليبيا؟ 

الأردوغانيون يصفقون لكل هذه التحركات؛ بل بعضهم يريدون مِن المصري أن يتخلى حتى عن خوفه الفطري على وطنه مِن التعرض لاضطرابات على حدود بلده، ويخاطبونه باسم الدين أن يعلن، أو -على الأقل- يبطن تأييد التواجد التركي في ليبيا، على أن هذا هو طريق الخلافة.

حتى وبعد أن عُقدت اتفاقيات بترول وغاز، وقروض دولارية من ليبيا إلى تركيا؛ مما يمكن أن يقال: إنها إجراءات كاشفة عن حقيقة مفادها: أن المصلحة الاقتصادية التركية تمثِّل الدافع الرئيس لهذا التحرك؛ ومع هذا يصر الأردوغانيون على مطالبتنا أن نصفق فرحًا بقدوم قوات الخليفة المرتقب بالقرب من ديارنا!

ونحن نذكِّرهم أولًا بفرضية جوهرية بنوا عليها تأييدهم المطلق لأردوغان كممثل للمنهج الإسلامي رغم مظاهرات الشواذ التي تحميها شرطته، وهي: أن الرجل مستضعف من جيش عالماني ودولة عميقة هم مَن يحمون في الواقع هذا المروق من الدين والأخلاق.

وبعد هذا التذكير نطرح عليهم سؤالًا:

هذان الخصمان اللدودان (أردوغان وقيادة الجيش التركي) أيهما حرَّك الجيوش؟ وأيهما رسم أهداف ذلك التحرك؟!

والإجابة تدور بين احتمالات ثلاثة:

- الاحتمال الأول:

أن أهداف التحرك أردوغانية، وأن أردوغان يريد منها نصرة قضايا الأمة (لا الفائدة التركية المحضة)، ولكن هذا يتعارض مع طرح أن الجيش والدولة العميقة لا يوافقانه في توجهه الإسلامي، ويكرهون اليوم الذي تتعاون فيه تركيا مع أي دولة عربية، وهم يريدون تركيا للأتراك، ويعقدون اتفاقيات الدفاع المشترك مع إسرائيل.

فهل بلغ أردوغان من القوة أنه يأمرهم أن يحركوا الجيوش والأساطيل ويرسلوا الجنود ليكونوا عرضة للموت من أجل ما يخالف مبادئهم؟!

ولكن حتى هذا الفرض مع سذاجته لا يمكن تصور وقوعه؛ فلا يوجد حرب تتم بإرادة سياسية منفردة بدون الاقتناع التام من العسكريين؛ ثم هو يتعارض تعارضًا فجًّا مع قناعة تامة لدى الأردوغانيين من أن أردوغان لو مس أي شيء من العالمانية داخليًّا -بما في ذلك البغاء والشذوذ- سيتحرك الجيش ضده.

فهل يخاف أردوغان من الجيش داخليًّا؛ بينما يلعب به كما يلعب بقطع الشطرنج خارجيًّا؛ ليحقق بهم أهدافًا ما قامت دولتهم إلا على أنقاضها؟!

إذًا فهذا الاحتمال غير وارد أن يتقبله أحد؛ اللهم إلا إذا تخلى عن عقله أولًا!

- الاحتمال الثاني:

أن يقال: إن التواجد العسكري التركي في ليبيا هو من المساحة المشتركة بين الجيش وأردوغان.

يعني مصالح اقتصادية لا تتعرض للعالمانية سلبًا ولا إيجابًا، ولا تقلل من فرص درجة الحلف بين الجيش التركي والجيش الإسرائيلي، ولا تقلل من درجة قناعة الجيش التركي أن تركيا للأتراك، وأنه تحرك خارج حدود تركيا لتوسيع نفوذ تركيا القومية العالمانية.

- الاحتمال الثالث:

أن تكون هذه أهداف الجيش العالماني، وأردوغان مجرد أداة.

وبعد استبعاد الاحتمال الأول؛ لم يبقَ إلا الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث.

وعلى أيٍ منهما؛ فالعجب كل العجب من الأردوغانيين؛ كيف يسكتون على هذا التلاعب بمقدرات الأمة؛ بل يدعون الشعوب الإسلامية أن تصفق له؟!

 وكيف واتتهم الشجاعة ليلبسوه ثوب المصلحة الإسلامية؟

ولماذا يطالبون المسلم الليبي أن يرضى بنهب ثروات بلاده؛ وإلا كان كارهًا للإسلام بزعمهم، والجيش القادم لبلاده تركي قومي مُغالٍ في قوميته عالماني مخلص لعالمانيته؟! ولماذا يطالبون المسلم المصري أن يرحب بشحن الدواعش من كل بقاع الأرض ليُدفع بهم على حدوده؟!

ونحن نعلم أن الله -تعالى- قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103)، ونعلم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دعوى الجاهلية: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)، ولم ندعُ يومًا إلى تحزب الناس على أساس أعراقهم؛ وإنما نقول: إن واجب الوقت أن تحمي كل دولة من دول المسلمين مصالحها وحدودها، وفي ذات الوقت تعمق التعاون الذي يمكن أن يؤدي إلى التكامل، ثم إلى الوحدة الرشيدة على غرار الاتحاد الأوروبي.

وعلى ذكر الاتحاد الأوروبي: لا أدري كيف تناسى الأردوغانيون أن حلم أردوغان شخصيًّا هو الانضمام إلى ذلك الاتحاد؟!

بينما نتمنى نحن أن يتمكن المسلمون من وجود إطار جامع لهم كهذا، وهذه الأمنية تعني منع تلك المغامرات والتصدي لها، وقيام كل شعب مسلم بالحفاظ على حدوده ومصالحه مع التعاون والتكامل.

ولما عرض أمر جزيرتي: تيران وصنافير؛ قلنا: رغم أننا نؤمن بوجوب السعي لوحدة المسلمين؛ إلا أن كل نظام حكم ملزم أمام شعبه بالحفاظ على أرضه وثرواته، وفي ذات الوقت فإنه لا يليق أن تلجأ الدول الإسلامية في خلافاتها الحدودية إلى الهيئات الدولية، وأن حل الأمور بالحوار المباشر أقرب إلى ما نصبو إليه من التعاون الإسلامي.

والعجيب: أن الأردوغانيين ما زالوا إلى يومنا هذا يعتبرون تلك سقطة وبيع للوطن، إلخ؛ مع أن الأمر بين دولتين عربيتين مسلمتين، وكان قائمًا منذ زمنٍ بعيدٍ، فلما احتاجت مصر إلى الجزيرتين في حروبها ضد إسرائيل جمدت السعودية مطالبتها بهما؛ يعني الموضوع ككل منذ بدأ في الثلاثينيات يصلح نموذجًا لما يجب أن يوجد بين البلاد الإسلامية من تعاون.

والآن هؤلاء الذين تقمصوا أشد أدوار القومية تشددًا في قضية تيران وصنافير؛ إذ بهم لا يعبئون ببترول ولا غاز، ولا ينزعجون من تدفق النقد الليبي إلى تركيا!

فهم في هذه اللحظات لا يرون في تركيا إلا أردوغان، ولن يسألوا أنفسهم، ولو سألهم أحد عن الجيش التركي الحارس للعالمانية؛ فلن يجيبوا.

وفي ذات الوقت الذي تباكوا فيه على الجزيرتين اللتين يتعلق بهما ترتيبات إستراتيجية كبرى بين دولتين إسلاميتين؛ إذا بهم لا يعبأون بما يمكن أن يحدق بمصر لو تمكن الدواعش المقاتلون مع أردوغان من السيطرة على حدود مصر الغربية.

خلاصة الأمر: إن الأردوغانيين عليهم أن يحددوا موقفهم لو كان أردوغان مسيطرًا على كل مؤسسات الدولة التركية؛ فلِمَ يقاتلون ويثورون ويدمرون مرافق الدولة؟! (كما اعترف أحدهم على الهواء مباشرة بأن تدمير أبراج الكهرباء عمل ثوري سلمي مشروع).

لِمَ يفعلون هذا في مصر وغيرها؛ أملًا في إقامة الحكم الإسلامي عن طريق ما يسمونه ثورة، وهو في حقيقته تخريب؟!

ولماذا لا يبدأ به أردوغان وقد تهيأت له أسبابه؟!

وإذا كانوا يرون أردوغان مستضعفًا من الجيش التركي العالماني الأتاتوركي؛ فلماذا إذًا يهللون لمشاريع الدولة التركية التي ينفذِّها ذلك الجيش في سوريا وليبيا (وبصورة غير مباشرة مصر)؟

نسأل الله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.