كتبه/ وائل رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتَمُرُّ في حياة الإنسان كثيرٌ مِن المواقف الصعبة التي تضطره إلى اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة، وتختلف طبيعة تلك القرارات باختلاف الظروف والأحوال والمسببات، ومِن هذه القرارات: قرار العودة إلى الوطن بعد سنوات طويلة من الغربة.
وبالرغم مِن أن معظم المغتربين يعيشون على أمل أنه مهما طالت سنون الغربة عن أوطانهم، فإنها مؤقتة، ولا بد من العودة يومًا ما إلى مسقط الرأس، ومرابع الصبا والشباب للاستمتاع بالحياة؛ إلا أن واقع الحال يُكَذِّب هذا الأمل، ولا سيما إذا وجد المغترب نفسه أمام هذا القرار والخيار الصعب.
فكم مِن المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة!
وكم منهم ظل يؤجل قرار العودة حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود!
وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن، كي يوفر الدريهمات التي جمعها ليتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره!
وكم من المغتربين عادوا بعد طول غياب، بعد أن عاشوا عيشة البؤساء، لكن ليس ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي ينتظرونه!
إن حال بعض المغتربين أشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد، وعندما حان التقاعد نظر إلى حياته، فإذا بها قد افتقدها كلها وولت وانتهت.
كثير من المغتربين يتألم ولا يتكلم، ينام على سرير من الشوك ولا يشكو، يبتسم وقلبه يبكي، يشقى ويتعب من أجل لقمة العيش الكريم، ولا يقبل الذل على نفسه.
حال المغترب يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ الطير المذبوح الذي يرقص من الألم ولا أحد يدري بأنه مذبوح، فالغالبية يجهلون الكثير عن حياة المغترب في الخارج، ويعتقدون أنه يعيش حياة مترفة، ولا يرون منها سوى الغلاف الخارجي فقط بأنه يعيش حريته كما يحلو له؛ وما ذلك إلا لأنه يكتم عنهم عذابه، ويخفي آلامه كي لا يحملهم همه فوق همومهم.
إن أعظم ما يقاسيه المغترب بعد سنوات غربته الطويلة أن تختلط عليه الأمور، فلا يدري أي البلدان صار له وطن!
ويبقى السؤال: متى تنتهي ملحمة الغربة، ونطوي هذه الصفحة، ونعود إلى أرض الوطن؛ لتندمل جراح الغربة وآلامهما، وتشفى برؤية الوطن، وشم ترابه، واستعادة ذكرياته؟ فمهما كانت أرض الغربة جميلة، لا يمكن أن تحل محل الوطن.