الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 26 مارس 2020 - 2 شعبان 1441هـ

مظاهر القسوة في مجتمعنا أسباب وعلاج (22) علاج التفكك الأسري المعنوي

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قدَّر الله -تعالى- ظهور فيروس كورونا؛ ليعالج عند أكثر بيوتنا خللًا ضخمًا لغياب العلاقة الأسرية المباشرة بين أفراد الأسرة، وكثرة قضاء أكثر أفرادها معظم أوقاتهم خارج المنزل؛ فأصبح البقاء في المنزل إجباريًّا معظم الليل؛ ولكنَّ الشيطان للناس بالمرصاد، فبدلًا مِن أن يجلسوا مع بعضهم بعضًا؛ إذا بسيلٍ جارفٍ هائلٍ من رسائل الفيس والواتس فوق الطاقة كل يوم وليلة، تحمل بذور التوجهات المتنازعة والاختلافات المتناقضة.

وكأننا ما كفانا الحرمان من المساجد وإغلاقها، وغياب صوت الأذان عن كثيرٍ مِن أحيائنا وشوارعنا -بعد النعمة العظيمة به- حتى تقسو قلوبنا بالنزاع والشقاق، حتى صار كل واحد -بعلمٍ أو بغير علمٍ- لابد أن يدلي دلوه، ويبدي رأيه في كل نازلة علمية فقهية أو طبية أو اجتماعية، حتى أصبح البَوْنُ هائلًا في الآراء والتوجهات التي تفرِّق الأمة الواحدة، والوطن الواحد، والجماعة الواحدة، والصف الواحد؛ بل تفرِّق الأسرة الواحدة! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلابد لنا في العلاج أن نتناول الدواء الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، والقلم أحد اللسانين؛ مع أن السلف كانوا يطبِّقون هذا الحديث على جميع أوقاتهم وأحوالهم، وليس فقط عند حظر التجول، أو الإلزام القسري في البيوت؛ خشية انتقال المرض، وتحوله إلى وباء داخل البلاد. نسأل الله أن يعافينا من ذلك.

فلابد أن نتعلم نحن تطبيقه في هذه الظروف؛ لنستمر بعد ذلك في حياتنا كلها على هذا المنوال؛ لتحصل البركة في الأوقات بدلًا من فقدها في القيل، والقال وكثرة السؤال.

ولابد لنا أن نقلل -إخوة الإسلام- مِن استعمال وسائل التواصل، وليبدأ كل منا بنفسه؛ فلا يرسل رسائل إلا لحاجةٍ حقيقيةٍ، ولابد من ضبط الوقت؛ فنستطيع قضاء الوقت في تلاوة القرآن والذكر وطلب العلم؛ سماعًا للدروس العلمية، وقراءة للكتب النافعة، وكذا الجلوس مع الأسرة؛ لنبتعد قليلًا عن هذا السبب الأساسي من أسباب القسوة.

والله لقد علمتُ أزواجًا لا يكلِّم أحدهم الآخر إلا مِن خلال رسائل الواتس؛ فتحدث القسوة والجفوة، وتصبح العلاقة مملة شديدة الملل؛ فتُخرَّب البيوت نسأل الله العافية.

وكأني أنظر إلى شبابنا الذي تعوَّد على السهر على المقاهي، ومشاهدة مباريات الكرة، ومحلات الألعاب الإلكترونية؛ فتوقف كل ذلك، فهو يشكو الملل، ويبحث عن تضييع الوقت في ساعاتٍ طويلةٍ مع الهاتف الذكي؛ بل الغبي في الحقيقة، المدمِّر للثقافة، المثير للفتنة والفرقة!

فهلَّا قضيتم وقتكم بالنهار بالبحث الحقيقي عن الأُسر الفقيرة المتضررة من تعطل الأعمال؛ لنوصل إليها حاجاتها بدلًا من أن يكون المتسولون هم الذين يأخذون النصيب الأكبر من المساعدات؟! قال الله -عز وجل-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد:11-17).

(مَسْغَبَة): مجاعة.

(ذَا مَتْرَبَةٍ): أي: التصق بالتراب من شدة الفقر.

فأوصت الآية بالضعفاء من اليتامى، والقرابات والفقراء المساكين الذين لم يعد لديهم إلا التراب؛ فهلا تواصينا بالصبر وتواصينا بالمرحمة كما أمرنا الله؟!

فهلا عزمتم على توصيل طلبات كبار السن والأرامل وأصحاب الحاجات الخاصة إليهم في بيوتهم؟!

فإن الصدقة بالجهد زكاة البدن، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقةٌ، وإِنَّ مِنِ الْمَعْروفِ أَنْ تَلْقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وأنْ تَفْرُغَ مِن دَلْوِك في إِنَاءِ أخيك) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وفي الحديث الآخر: (وتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ صَدَقةٌ) (متفق عليه).

ومِن أعظم العلاجات للقسوة: تجنب البدع التي لم يفعلها السلف؛ كترتيب أذكار وأدعية لم ترد في الكتاب والسُّنة مع التداعي على الاجتماع عليها ساعة معينة، وكيفية معينة؛ حتى خرجت المسيرات والمظاهرات والوقوف في البلكونات، ووصل الأمر إلى ما يسمونه بالتحدي؛ فلان يتحدى فلانًا في الاستغفار ألف مرة!

أما شعرتم بقسوة القلب حين نتناول عبادة الانكسار والخضوع في أوقات التضرع بمثل هذه الألفاظ والتحديات التي تدل على الغفلة عن معنى الاستغفار والتضرع؟! بل هي أقرب إلى الرياء والسمعة؛ خصوصًا مع نشرها على صفحات التواصل.

أما علمتم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ) (رواه مسلم)؟!

ألا بكينا على ما أصابنا من خطايانا وذنوبنا: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30)، فاللهم اعفُ عنا، وقال الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43).

إن قضاء الساعات الطويلة على صفحات التواصل يقسي القلب، ويُبعد دمعة العين، ويشتت الذهن، ويفكك الأسرة، ويزيد الشقاق، وينشر البدع، ونحن أحوج شيءٍ إلى السُّنة واللين، والرحمة بالخلق؛ خاصة الضعفاء.

 اللهم أغث أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بفرجٍ مِن عندك، وأعدنا إلى مساجدنا، وأعد الطائفين والقائمين، والعاكفين، والركع السجود إلى بيتك الحرام، وأعد المصلين إلى مسجد نبيك -صلى الله عليه وسلم-، وإلى المسجد الأقصى، وسائر المساجد.

اللهم بلغنا رمضان وقد عافيتنا، وعافيت أمتنا مِن البلاء والوباء، وتسلُّط الأعداء.

اللهم فارج الهم، وكاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمنا؛ فارحمنا رحمة مِن عندك تغننا بها عن رحمة مَن سواك.