كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كانت مسألة التكفير بدرجاتها المختلفة -وإن أنكرَها مَن أنكرها- والصِّدام مع المجتمع والدولة، نقطة فاصلة لا تُحتَمل مع جماعة الإخوان وما تفرع عنها مِن جماعات العنف والصدام، ولقد كانت هذه المسألة قديمة في الإخوان؛ إلا أنها في عهد الأستاذ "حسن البنا" لم تكن قد تبلورت في صورتها التامة الصريحة التي ظهرت في كتابات الأستاذ "سيد قطب" و"محمد قطب"، وخاصة في كتاب: "معالم في الطريق" الذي كانت تعده جماعات الصِّدام -التي تسمي نفسها: "الجهاد"- محور التعليم والتربية في مجموعاتها الخاصة في المنازل، كما أخبرني بذلك أحد قادتهم الذين قابلناهم في عنبر (د) في سجن استقبال طُرَة سنة 2002م.
لكن كانت البذرة موجودة خاصة في سنوات "البنا" الأخيرة، وأوضح ذلك في رسالة المؤتمر الخامس التي كانت رسالة محورية تُدَرَّس لجميع الإخوان حيث قال: "يَتساءل كثيرٌ مِن الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟ ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة؛ بل إنني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر في هذا في وضوح وفي جلاء؛ فليسمع مَن يشاء: أما القوة فشعار الإسلام في كل نُظُمه وتشريعاته؛ فالإخوان المسلمون لا بد أن يكونوا أقوياء، ولا بد أن يعملوا في قوة، ولكنَّ الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا مِن أن تستهويهم سطحية الأعمال والأفكار... " إلى أن قال: "فهم يعلمون أن أول درجة مِن درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعد ذلك قوة الساعد والسلاح؛ ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني... ".
وقال: "إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عُدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صُلَحاء، وسيُنذِرون أولًا وينتظرون بعد ذلك، ثم يُقدِمون في كرامة وعِزَّة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح، وأما الثورة فلم يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها، ولا يُؤمِنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة بمصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل؛ فسيؤدي ذلك حتمًا إلى ثورة ليستْ مِن عمل الإخوان المسلمين ولا مِن دعوتهم؛ ولكن مِن ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمان ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا مِن هذه النذر؛ فليسرع المنقذون بالأعمال".
وقد تبلورت هذه الأفكار في عدة أعمالٍ، اعترف الإخوان المسلمون بعد ذلك بأن التنظيم الخاص هو الذي قام بها، مثل: اغتيال "الخازندار"، ثم اغتيال "النقراشي باشا" الذي كان القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الإخوان والدولة المصرية في ذلك الوقت، وأدَّى ذلك إلى حَلِّ الجماعة ثم اغتيال الأستاذ "حسن البنا".
ولقد ظهرت بذرة الصدام مع الدولة والمجتمع ظهورًا بَيِّنًا في بيان الأستاذ "حسن البنا": "رسالة القول الفصل" التي ختمها بـ: "يا حضرات السادة الحكام، لن ترضى هذه الجماعة لنفسها أن تدع لكم تقرير مصيرها، ولن تسمح لكم بأن تقلِبوا الحقائق، وتعتدوا على الحريات، وتُصادروا الأموال والممتلكات، وتظلموا الأبرياء بالباطل، وإنها لتُحَمِّلُكم أمام الرأي العام نتائج ما يحدث عن هذا العدوان، وعلى الباغي تدور الدوائر"، بعد أن سبق في رسالته التهديد للانتصار لما سَمَّاه: "رفع الظلم، والانفجار الذي نتج عن الضغط؛ فمَن كان مِن المعتدين عليه دافع عن نفسه، ومَن مات دون عِرضه فهو شهيد، ومَن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون دينه فهو شهيد".
ولا شك أن الاستدلال الخاطئ بهذا الحديث في دفع الشباب إلى مهلكة الفتن لا يزال يُستعمل إلى الآن.
ويُراجَع في ذلك كتاب المهندس "أحمد الشحات": "العنف الكامن والتكفير المستتر - دراسة حول موقف جماعة الإخوان من التكفير والعنف" وهو كتاب رائع.
ونحن في الحقيقة كان تعامُلُنا مع الجماعة ابتداءً مِن عهد التلمساني، الذي شهد سنوات مِن الاندماج بين مجموعة من الشباب سلفي المنهج أقنعهم أحد الأساتذة -الذي ظَنُّوه من أنصار السنة (م.ح.) وكان في حقيقة أمره من الإخوان- بأن الاندماج مع "الإخوان" خيرٌ للدعوة والدين، واشترطوا المحافَظة على "السلفية"، ووافق لهم "الإخوان" على ذلك!
والحمد لله لم أكن مِن هذه المجموعة؛ فلم أحتج يومًا لنقضِ بَيعةٍ كانت تمثِّل أزمةً نفسية هائلة لدى كل شباب الجماعة؛ لأنهم حملوها على المعنى السياسي للبيعة التي مَن خلعها خلع رِبقة الإسلام مِن عُنقه! إلى أن وَجد هؤلاء الشباب الحل في كَفَّارة اليمين -كما أفتاهم بذلك بعض العلماء السلفيين لما رأوا عدم الالتزام بشرط المحافظة على المنهج السلفي-؛ فخرجوا مِن الجماعة، وتَكَوَّنَت منهم ومِن غيرهم -الذين لم يدخلوا الإخوان- "المدرسة السلفية" سنة 79، كاتجاهٍ منفصلٍ عن "الإخوان" بعد أن كانت مدرسة "الجماعة الإسلامية" التي كانت لا تزال تحت عباءة "الإخوان" سِرًّا، لكن وَقَع الانفصال عَلَنًا سنة 79 بعد أحداث كلية الطب.
وكان النزاع مع "الإخوان" في هذه الأوقات ليس في مسائل التكفير والصِّدام؛ بل في مسائل عقدية: كضرورة التزام منهج السلف في الصفات، وتوحيد الألوهية وما يتعلق بقضايا القبور والغلو في الصالحين، وغيرها، وكذا مسائل القَدَر، والموقف مِن الشيعة الروافض، والتي كانت مِن أبرز الخلافات في المسائل العَقَدية عندما قامت ثورة "الخميني" في إيران، ووجدنا التسارع الأهوج والتأييد الأعمى لهذه الثورة الشيعية الذي وصل إلى اعتبار "الخميني" إمامًا للمسلمين!
وكذا كان الخلاف في مسائل عَمَليَّة: كسفر المرأة بدون مَحرم، والرسم والتماثيل، وقضية التعامل مع فقه الخلاف، ونحو ذلك.
وكانت قضية العنف والتكفير محسومة، بل كان مِن ضمن ما يَدرسه طلاب المدرسة السلفية كتاب: "دعاة لا قضاة" للهضيبي -تأليفًا أو إقرارًا-.
وكان مِن ضمن التوافق: الرد على "جماعة التكفير" خاصة عند قتلها الشيخ "الذهبي" -رَحِمَهُ اللهُ-، وقد كان هذا في مرحلة ما قبل الانفصال، وقد خرجت المسيرة باسم: "الجماعة الإسلامية" مِن المعسكر الصيفي سنة 1977 من استاد الجامعة إلى شارع سعد زغلول، وميدان محطة الرمل؛ لاستنكار جريمة قتل الشيخ الذهبي، والطواف في وسائل المواصلات لتوضيح براءتنا مِن هذه الجماعة وهذه الجريمة لعموم الناس، ولقد شاركنا جميعًا -السلفيون والإخوان- داخل "الجماعة الإسلامية" في هذه الفاعليات، وكنتُ واحدًا ممَن شارك في المسيرة، وفي الطواف في وسائل المواصلات؛ للبراءة مِن فكر جماعة التكفير، وفعلتهم الشنيعة.
وكذا كان موقفنا واحدًا مِن جماعة "التوقف والتبيُّن" التي كان يقودها "عبد المجيد الشاذلي"، ولم أكن وقتها أعرف أنه مِن جماعة "سيد قطب" ومدرسته، بل كان السائد لدينا في أسرتي -وقد كان والدي واحدًا مِن جماعة الإخوان، وكذا عمي، رَحِمَهُمَا اللهُ، لكن دون بيعة- هو تبرئة الأستاذ "سيد قطب" مِن هذه الأفكار، وقراءة كل كتبه في إطار هذه التبرئة؛ خاصة أن الألفاظ لم تكن صريحة فيما قرأناه، وعَلِمت من عمي الدكتور برهامي -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قد وقع الخلاف في المعتقل سنة 66 و67 بين معظم الجماعة وبين جماعة "سيد قطب" ومَن كانوا معه؛ وعندما حكيت له في الأحداث الأخيرة طريقة الإخوان في التخوين والحكم بالنفاق والتلويح بالتكفير على مَن خالفهم -وأنا على رأسهم-، وكذا محاولات ضرب الاستقرار والاقتصاد مثل: "عَطَّل عربيتك"، والمنع من الأضحية، و"وَقّع شبكة" -أي: الاتصال المستمر بالهواتف دون هدف إلا تعطيل الشبكة-، و"اِتفَسَّح بجنيه" -أي: الاستمرار في ركوب المترو طوال اليوم بنفس التذكرة بجنيه واحد؛ لإحداث السخط في الشعب على الزحام، وعدم توافر المواصلات-، وتشغيل كافة الأجهزة الكهربائية في المنازل؛ لتعطيل الكهرباء بزيادة الحمولة في الصيف، و"لِمّ الفَكَّة"، و"لِمّ الدولار"؛ لرفع سعره وإسقاط الاقتصاد، وكذلك محاولات تفجير أبراج الكهرباء - لما حكيتُ لعمي عن هذه الأمور قال: "إن هؤلاء يشبهون جماعة قطب التي كانت معنا في المعتقل، وحَذَّرَتْنا القيادة منها!".
فكان المستقِر عندنا -إلى أن حدثت الأحداث- أن الخلاف في المسائل الفكرية، ليس منها "قضية التكفير والعنف"، بل كان الذي يُقال لنا: إن كل القضايا التي نُسِبَت إلى الإخوان في 48 و54 و65 ملفقة ومكذوبة مِن قِبَل النظام! ولم يكن لدينا أي اطلاع على مدوناتٍ تاريخيةٍ مِن داخل الجماعة كالتي صدرت بعد ذلك، مثل: ("الإخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ" للأستاذ محمود عبد الحليم - طبعة دار الدعوة)، و("حقيقة التنظيم الخاص" للأستاذ محمود الصباغ - تقديم الأستاذ مصطفى مشهور عضو التنظيم الخاص)؛ ولذا كان تَعَامُلنا العملي هو إمكانية التنسيق مع الجماعة والتعامل معها بالقدر المشترك، ومِن هنا كانت محاولات التنسيق في انتخابات مجلس الشعب الأولى في آخر 2011م حيث قمنا بزيارة لحزب "الحرية والعدالة" لمحاولة وضع ضوابط لعدم التنافس المذموم، ومحاولة ترك بعض الدوائر لمَن نراه مطلوبًا وجوده في مجلس الشعب القادم مِن الإخوان أو السلفيين؛ فكان جواب الدكتور مرسي -رئيس الحزب في ذلك الوقت-: "it is too late!"، لقد جئتم متأخرين جدًّا؛ لقد نَسَّقْنَا مع كل الأحزاب والقوى الليبرالية المتحالِفة معنا، ولا نستطيع أن نعدكم بشيء.
وأتذكر أنني سميتُ في وسط الحوار: المهندس "عبد المنعم الشحات"، في أهمية وجوده في المجلس لمصلحة الجميع؛ فكان الرد بالموافقة على ذلك بالتأكيد، وأنهم هم مَن سينتخبونه (وهذا للأسف حدث عكسه تمامًا، بل تحالفوا على إسقاطه، بل تم التزوير بالطرق الخَفِيَّة -التي لم نكن نعلمها- لإفشاله في انتخابات الإعادة).
وقلتُ للدكتور مرسي يومها: "فلا أقل على الاتفاق على ميثاقٍ أخلاقيٍ أثناء الانتخابات نلتزم به جميعًا؛ كان مِن أبرز بنوده: الإجماع على أن التزوير محرم شرعًا، وجريمة لا تجوز بحال ولا تأويل، كذلك تجنب التشويه للطرف المخالف وسرعة التواصل في حالة أي نزاع لإيقافه، لكن للأسف الشديد وجدنا نقضًا لهذا الميثاق الأخلاقي الذي نشرته جريدة الفتح، وجريدة الحرية والعدالة التزامًا مِن الطرفين بذلك!
وللأسف أيضًا: كانت اللجنة المُشَكَّلَة مِن "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" موجَّهة -بالتوجه الذي لم نكن نعلمه- للمسئول عنها -الدكتور "محمد يسري" الذي كان على ارتباط وثيق بالسروريين، ولم نكن نعلم ذلك- إلى التسوية بين الظالم والمظلوم في مخالفة هذا الميثاق! وكان هذا -بلا شك- مما زاد الفجوة بين الاتجاهين.
ثم كانت نتيجة الانتخابات بعد كل هذا، ورغم كل ما حدث، صَادِمَة للجميع؛ بحصول "حزب النور" ومَن تحالف معه مِن الاتجاهات الإسلامية -التي صح لي أن أقول: "لو استقبلنا مِن أمرنا ما استدبرنا لما قَبِلنا هذا التحالف الذي لم يَرعَ لنا حَقًّا، ولا عرف لنا جميلًا، ولا حتى تَوافُقًا فيما اتُّفِق عليه؛ بل كان عَونًا للإخوان علينا في كل المواقف تقريبًا، ثم عاد الكثيرون إلى منهجهم الأصلي، وكانت فترة العمل السياسي فترة مؤقتة لا حقيقة لها في التغيُّر- على 23% تقريبًا مِن مقاعد مجلس النواب التي مَثَّلَت ثاني أكبر كتلة برلمانية.
عندها حاول "الإخوان" استغلال أكثريتهم في السيطرة على كل اللجان دون مشاركة مع أحدٍ غيرهم في جميع وظائف اللجان -وكانت الخطوة الثانية في التباعُد-؛ عند ذلك تواصل بعض النواب مع أفراد المعارَضة لتحقيق المُشارَكَة لجميع القوى السياسية دون المُغَالَبة -كما هو الشعار المرفوع؛ نُطَبِّقه حقيقةً للمصلحة الراجحة- وهذا كان هدفنا فعلًا؛ إزالة الحواجز بين الحركة الإسلامية عامة "والسلفية خاصة"، وبين عامة الناس والقوى السياسية مِن جانبٍ آخر، وأننا لا نريد الإقصاء والاستئثار الذي يضر بنا وبالبلاد كلها؛ إضافة إلى عدم قدرة الحركة الإسلامية على الانفراد بالعمل، ولا مواجهة الجميع في مرحلةٍ شديدة الحساسية مِن تاريخ البلاد، تحتاج إلى التعاون الصادق للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.
ولكن للأسف كان الشعور الزائف بالانتصار والتمكين ووهم السيطرة لدى قيادات "الإخوان" -ذات التوجه الصِّدامي في الحقيقة الذي تربوا عليه- هو المحرِّك لهم فيما صنعوا! وما أن عَلِموا بهذا التواصل إذا بهم يتواصلون فورًا مع المهندس "أشرف ثابت"؛ للتنسيق الذي سَبَق أن رَفضوه!
وتم الاتفاق على إشراك كل الكُتل الموجودة في البرلمان من أجل الإصلاح التدريجي؛ لا الاستئثار والإقصاء الذي يزيد الجو شحناء وكراهية، ويعمِّق شعور العزلة عن المجتمع عند أصحاب التوجه الإسلامي.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.