الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 08 يونيو 2016 - 3 رمضان 1437هـ

مناقشات في التمذهب (3)

(الحث على فقه الدليل)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد بيَّنا -فيما سبق- أن غرضنا مِن هذه السلسة "مناقشات في التمذهب" هو أن نستعرض بعض الأمور الخاصة بقضية التمذهب، ومِن أهمها: الضوابط التي بيَّنها العلماء للجمع بيْن التمذهب كترتيب اتفقت الأمة على إباحته في الجملة، وبيْن ما أجمعت الأمة عليه مِن وجوب اتباع الدليل".

وقد رأينا أن نبدأ هذه السلسلة بدراسة مبحث: (تاريخ التمذهب، والحث على فقه الدليل) مِن كتاب: (المدخل المفصَّل لمذهب الإمام أحمد)، وقد انتهينا مِن التعليق على ما يخص "تاريخ التمذهب"، ونتناول في هذه المقالة -إن شاء الله-: "الحث على فقه الدليل"(1).

قال العلامة "بكر أبو زيد" في كتابه "المدخل المفصَّل لمذهب الإمام أحمد" في المبحث الرابع مِن المدخل الأول: (.... هذه إِلمامة مختصرة عما كان عليه أمر الناس، وما حدث بعد مِن التمذهب(2)، ثم انشقاقهم فيه إلى فريقين؛ إلا بقايا مِن أهل العلم كانوا على ما كان عليه الأَئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- حتى عصر الخلفاء الأَربعة -رضي الله عنهم- اكتسبوا، لَقَب: "أَهل الحديث"؛ هذا اللقب المنيف الذي كان مِن قَبْلُ لِشُيُوْخ القرون المفضلة، ثم قيام ورثتهم في القرن الثامن الهجري بإِحياء مآثرهم، ودلالة الناس على مدرستهم، تترسم خُطى النبوة والرسالة، ومدارج الصحابة، وَقَفْوَ التابعين لهم بإحسان في الخُطُوَات الآتية:

أولاً: أن الله -سبحانه- قد قَضَى وحكم، وأمر وألزم، وعهد إلينا: ألا نعبد إلا إيَّاه، وألا نعبده إلا بما شَرَع؛ وهذا مقتضى الشهادتين، وهذا هو أصل الملة، بل عليه مدار بعثة جميع أَنبياء الله ورسله -عليهم السلام-.

فحكمه وأَمره- سبحانه- في آياتٍ، منها: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (يوسف:40).

وأَمره في قوله- تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (التوبة:31)، وقوله -سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة:5).

وحكمه في قوله- تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57).

وقضاؤه في مثل قوله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23).

وعهده في قوله -تعالى-: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس:60-61).

وإلزامه عباده بتوحيده في قوله -تعالى-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الفتح:26).

قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في آخر رسالته "رواية الاصطخري": كما في: "الطبقات لابن أَبي يعلى: 1/ 31": "والدين إِنَّما هو كتاب الله -عز وجل-، وآثار وسنن، وروايات صحاح عن ثقاتٍ بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة، يصدق بعضها بعضًا، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأَصحابه -رضوان الله عليهم-، والتابعين وتابعي التابعين، ومَن بعدهم مِن الأَئمة المعروفين المُقتدَى بهم، المتمسّكين بالسُّنة، والمتعلقين بالآثار؛ لا يعرفون بدعة، ولا يطعن فيهم بكذب، ولا يُرْمَوْن بخلاف، وليسوا بأَصحاب قياس ولا رأي؛ لأَن القياس في الدين باطل، والرَّأي كذلك وأبطل منه، وأَصحاب الرأي والقياس في الدِّين مبتدعة ضلال، إلا أَن يكون في ذلك أَثر عمن سلف مِن الأَئمة الثقات.

ومَن زعم أَنه لا يَرى التقليد، ولا يقلد دينه أحدًا(3)؛ فهو قول فاسق عند الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، إِنَّما يريد بذلك إبطال الأَثر وتعطيل العلم والسُّنة، والتفرد بالرأي والكلام، والبدعة والخلاف، وهذه المذاهب والأَقاويل التي وصفتُ مذاهب أَهل السُّنة والجماعة والآثار، وأَصحاب الروايات، وحملة العلم الذين أَدركناهم وأَخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السنن، وكانوا أَئمة معروفين ثقات أَصحاب صدق، يُقتدى بهم ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أَصحاب بدعة، ولا خلاف ولا تخليط، وهو قول أَئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم؛ فتمسكوا بذلك -رحمكم الله- وتَعَلَّموه وعَلِّموه. وبالله التوفيق) انتهى.

ثانيًا: أَن الواسطة بيننا وبيْن الله: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فنشهد بالله أَنه قد بلَّغَ الرسالة، وأَدَّى الأَمانة، وختم الله به النبوة والرسالة، وأَكمل الله به الديانة، وجعل شريعته ناسخة لكل شريعة، قاضية على كل نحلة ووجهة، فيجب على كل مسلم الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، واتباع سنته، فإِن مَن أَطاعه أَطاع الله ومَن عصاه فقد عصى الله، وقد قال الله- تعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50).

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبين عن ربه، وعلماء أمته مستقون مِن شريعته، مستدلون بما أَوحاه الله إِليه؛ فهم وسائط في البلاغ والاستدلال، ونقل هذا الدِّين، ونشره.

وفي "الطبقات" أَيضًا قال الإمام أَحمد -رحمه الله تعالى-: "الدال: الله -عز وجل-. والدليل: القرآن. والمبيِّن: الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والمستدل: أولو العلم. هذه قواعد الإسلام" انتهى.

وأولو العلم المستدلون للأَحكام الشرعية، هم: "أولو الأمر" المذكورون في قول الله- تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59).

فالعالم المفتي المجتهد "وفي مقدمتهم علماء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الواحد منهم قائم في هذه الأمة مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في وراثة الشريعة، وتبليغها للناس، وتعليمها للجاهل بها، والنذارة بها، وبذل الوسع في استنباط الأَحكام منها؛ ولهذا كان لهم في الأمة مِن عظيم المقام، وصدق القيام، ما به تأيد هذا الدِّين، وبلغ ما يراه الناس مِن هذا المبلغ العظيم، وكان مِن آثاره الحِسان هذه الجهود المتكاثرة المباركة في استنباط الأَحكام مِن نصوص الوحيين الشريفين، وتدوينها، والجلد العظيم على نشرها، وتوسيع دائرتها، وتدوينها في متون، وشروح، وحواشٍ، وما إِليها؛ الكل يلتمس الارتواء مِن هذه الشريعة المباركة، فكلهم مِن رسول الله يقتبس، ومِن شريعته يلتمس، وما هم بالمعصومين.

ثالثًا: يجب على المسلمين تعلُّم كتاب الله- تعالى- وسُنَّةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والعمل بما علموا منهما، وإن تعلم الوحيين في هذا الزمان، أَيسر منه بكثير في القرون المتقدمة؛ لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك مجموعًا، مرتبًا، مفهرسًا، مطبوعًا، مقرَّب التناول، وقد حثَّ الله المسلمين في محكم كتابه على تدبره، فقال -سبحانه-: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) (رواه البخاري).

والسُّنة قطرة مِن بحره الزاخر كما قال- تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21).

وقد أنكر الله على مَن لم يكن كذلك، فقال- تعالى-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)، وقال- سبحانه-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30).

لهذا فإن إِعراض كثير مِن أهل الأقطار عن الوحيين الشريفين، وتقليص الاقتباس مِن نورهما في كراسي التعليم، والاكتفاء بالمذاهب المدونة: مِن أعظم الباطل، وهو مخالِف لأَئمة تلك المذاهب، وقد أَنتج هذا البلاء العظيم: تحكيم القوانين الوضعية، ثم تهدئة عواطف الأمة بدعوى المماطلة "تقنين الشريعة"، وأَنتج: "الغَزْوَ الفِكْرِيَّ" بشتى ضروبه وأشكاله(4).

رابعًا: يجب على العوام الذين لا قُدرة لهم على التعلم، سؤال أهل العلم، والعمل بما أفتوهم به، وهذا هو "التقليد" في الاصطلاح الحادث، وحقيقته: "الأَخذ بمذهب الغير مِن غير معرفة دليله".

وهو على قسمين: جائز وغير جائز:

القسم الأول: التقليد الجائز وهو على نوعين:

1- تقليد العامي عالمًا أهلاً للفتيا، فيما ينزل به مِن أمور دينه: وهذا العامي يجوز له أن يقلِّد مَن شاء مِن العلماء مِن غير حَجْر في كل نازلة تَمُرّ به، راغبًا الوصول إلى الاقتداء والتأسي؛لا تتبع الرّخص التَشهي،وهذا تقليد مشروع مجمع على شرعيته.

2- تقليد المضطر اضطرارًا حقيقيًّا؛ فهذا معذور، مثل:

- مَن لا قدرة له على الفهم.

- مَن له قدرة على الفهم، لكن عاقته عوائق عن التعليم.

- أو هو في أَثناء التعليم، لكن لم ينضج بعد.

- أَو لم يجد كفؤًا يتعلم منه، ونحو ذلك.

القسم الثاني: التقليد غير الجائز وهو على ثلاثة أنواع:

1- كل حُكم ظهر دليله مِن كتاب أو سنة أَو إجماع سالم مِن المعارض؛ فهذا لا يجوز فيه "التقليد" بحال، ولا "الاجتهاد"، وإنما يجب فيه: "الاتباع"، وحقيقة الاتباع: هو الأخذُ بِمَا ثَبَتَتْ عليه حجة مِن كتاب أو سنة أو إجماع سالم مِن المعارض.

2- تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده مجتهدًا آخر خلاف ما ظهر له هو.

3- تقليد رجل واحد مِن العلماء دون غيره مِن جميع أهل العلم، فهذا لم يحصل لأحدٍ مِن الصحابة -رضي الله عنهم- ولا مِن أحد منهم، ولا في أحد مِن أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، ولم يقل به أحد مِن أهل العلم طيلة تلك القرون، وإنَّما حدثت بدعة القول به في القرن الرابع الهجري(5).

وقد أَجرى ابن عبد البر المتوفَّى سنة (463 هـ) -رحمه الله تعالى- في "جامعه"، وابن القيم المتوفى سنة (751 هـ) -رحمه الله تعالى- في "إِعلام الموقعين": المحاكمةَ بيْن دعاة التقليد على هذا الوجه، وبيْن المانعين، ببحوث طويلة الذيل، لكنها قصيرة في نظر المنصف -أمثال هذين الإمامين-؛ لقصور حجة المجيز، وظهور حجة عدم الجواز على القول بالجواز.

وقد ساق شيخنا "محمد الأَمين الشنقيطي" المتوفى سنة (1393 هـ) -رحمه الله تعالى- مقاصد الشيخين في كلامهما في "أَضواء البيان": (7/488- 539).

ولابن القيم -رحمه الله تعالى- كلمات حسان، لم أَستطع تجاوزها دون سياق لها؛ لأَنها جامعة مانعة، وهذا نصها: "4/ 262- 264": "ولم يوجب الله ولا رسوله على أَحدِ مِن الناس أَن يتمذهب بمذهب رجل مِن الأمة؛ فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة، مبرأ أَهلها مِن هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ فالعامي لا مذهب له؛ لأَن المذهب إِنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيرًا بالمذاهب على حسبه، ولمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما مَنْ لم يتأهَّل لذلك ألبتة، بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك؛ لم يصِرْ كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أَنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب؛ لم يصر كذلك بمجرد قوله.

يوضحه أَن القائل إِنَّه شافعي أو مالكي أو حنفي، يزعم أَنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه، وهذا إِنَّما يصح له إِذا سلك سبيلَه في العلم والمعرفة والاستدلال، فأَما مع جهله وبُعْده جدًّا عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه؛ فكيف يصح له الانتساب إِليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ مِن كل معنى؟! والعامي لا يُتصور أَن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أَحدًا قط أَن يتمذهب بمذهب رجل مِن الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويَدعُ أقوال غيره.

وهذه بدعة قبيحة حَدَثَتْ في الأمة، لم يقل بها أَحد مِن أَئمة الإسلام وهم أَعلى رتبة وأَجل قدرًا وأعلم بالله ورسوله مِن أن يلزموا الناس بذلك!

وأَبعد منه قول مَن قال: يلزمه أَن يتمذهب بمذهب عالم مِن العلماء!

وأَبعد منه قول مَن قال: يلزمه أَن يتمذهب بأَحد المذاهب الأَربعة!

فيا لله العجب!

ماتت مذاهب أَصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومذاهب التابعين وتابعيهم، وسائر أَئمة الإسلام، وبطلت جملةً؛ إلا مذاهب أَربعة أَنفسٍ فقط مِن بيْن سائر الأَئمة والفقهاء؟! وهل قال ذلك أَحد مِن الأَئمة أو دعا إليه أو دلَّت عليه لفظة واحدة مِن كلامه عليه؟!

والذي أَوجبه الله -تعالى- ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على مَنْ بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجبُ ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز، والزمان والمكان والحال، فذلك أيضًا تابع لما أَوجبه الله ورسوله، ومَنْ صحح للعامي مذهبًا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إِليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح؛ للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريمُ تَمذْهُبه بمذهب نظير إِمامه أو أَرجح منه، أو غير ذلك مِن اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أَنه إِذا رأى نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه؛ أَن يترك النصَّ وأَقوال الصحابة ويُقَدم عليها قول مَن انتسب إليه.

وعلى هذا فله أن يستفتي مَنْ شاء مِن أَتباع الأئمة الأَربعة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أَن يتقيد بأَحد مِن الأَئمة الأربعة بإِجماع الأمة، كما لا يجب على العالم أَن يتقيد بحديث أَهل بلده أو غيره مِن البلاد، بل إِذا صح الحديث وجب عليه العمل به حِجازيُّا كان أو عراقيّا أو شاميّا أو مصريُّا أو يمنيًا، وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رَسْم المصحف الإمام وصَحَّت في العربية وصح سَنَدُها.

 جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقًا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة بعده؛ جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال. والثاني: تبطل الصلاة بها، وهاتان روايتان منصوصتان عند الإمام أحمد. والثالث: إِن قرأ بها في ركن لم يكن مؤديًا لفرضه، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة، وهذا اختيار أَبي البركات ابن تيمية، قال: لأَنه لم يتحقق الِإتيان بالركن في الأَول ولا الإتيان بالمبطل في الثاني، ولكن ليس له أَن يتبع رُخَصَ المذاهب وأًخْذُ غرضه مِن أَي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الِإمكان" انتهى.

خامسًا: عقد الشورى في مسائل الخلاف:

إِن الله -سبحانه- هو الذي خلقنا مِن نفس واحدة كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (النساء:1).

وجعلنا أمة واحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأَنبياء:92).

وجعل الرابطة بيْن المسلمين: الأخوة الإسلامية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).

وقطع كل رابطة دونها مِن الروابط العرقية، والوطنية، والمالية، فقال -سبحانه-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).

وجعل معبودها واحدًا، ونبيها واحدًا، وقبِلتها واحدة، وقطع كل ما يتسرب إلى صدع هذه الوحدة، أو شق هذه الجماعة والله العليم الحكيم قد دعا الأمة إلى هذه الوحدة، وفي سابق علمه -سبحانه- أَن الخلاف في المسائل النظرية، والعملية، وتباين وجهات النظر، واختلاف المدارك والفهوم، لا بد أَن يكون، وهذا أَمر طبعي لمن منحهم الله العقل والتمييز؛ لهذا ومحافظة على عدم شق هذه الوحدة دعاهم إلى الشورى، وهذا مِن أَدل الدلائل، وأَعظم الوسائل المفيدة إلى أنه ليس كل خلاف مذمومًا، بل مع سلامة المقاصد "خلاف محمود"؛ لتتسعَ المدارك والفهوم.

مِن هنا كان الخلاف جاريًا بيْن الأَئمة الأربعة أَنفسهم كما جرى بيْن مَن قبلهم، ومَن بعدهم إلى أَن يشاء الله، وهذا الخلاف يفتح سيولة فكرية، وثراءً علميًّا، في فحص النصوص واستقراء دلالتها المتنوعة، وهذا ما حصل في أي خلاف فقهي، ومنه: "الخلاف الفقهي بيْن الأَئمة الأربعة"؛ فالموفَّق المسدد هو الذي يتخذ مِن هذا الخلاف في قلبه وعقله "مجلس شورى" يعقده للمناظرة بيْن آرائهم، ويحكمهم إلى الكتاب والسُّنة، فينظر أَهداها وأَقربها، وأَطوعها للنص ويأخذ به.

إذا انتهينا إلى الترجيح، فلا تشنيع ولا تأثيم على صاحب القول المرجوح، بل نُنزل خلافه على واحد مِن أَسباب الاعتذار المعلومة، والتي نرى جملتها في: "رفع الملام عن الأَئمة الأعلام".

وليكن في عقدة كل عالم: أن القول الذي اختاره ورجحه، يحتمل الخطأ، وأن يكون مقابله هو الصواب؛ لهذا كم رأينا مِن إمام رجع عن رأي له إلى مقابله؛ لدليل ظهر له، وتعليل بان له على خلاف ما سبق، وهذا يدل على نبل وفضل، ودين وعقل، وأَنه متلمس للحق أَبدًا.

وليكن في عقدة كل عالم: أَن الِإثم محطوط عن المجتهد في الدنيا والآخرة، وأَنه في الآخرة كذلك لمن يكشف عن هذه المسائل الخلافية الاجتهادية التي يخوض غمارها المجتهدون، ويصرفون لها قواهم، والله -سبحانه- أَكرم مِن أَن يفضح عبده بيْن يديه على رؤوس الخلائق وهو باذل جهده ووسعه.

وانظر إلى لطف الله -تعالى- في عبده داود -عليه السلام- لما فاقه سليمان -عليه السلام- بمعرفة الحكم؛ لم يعنفه، ولم يؤثمه؛ لأَنه صدر منه ما صدر عن اجتهاد بلغه علمه؛ حاشا مَن لم يكن مِن أَهل الاجتهاد، فإِنه لا يجوز له اختراق الحمى، ولا يجوز إِقراره، ويجب على أهل العلم والهدى تخطئته، وهو آثم محاسب على تفريطه.

فيا أَيها المنتسِب إلى مذهب الإمام أَحمد، أَو الشافعي، أو مالك، أو أَبي حنيفة... احذر أَن تكون مِمَّن أَعماهم تعصب الانتساب، واجعل ذلك الإمام ومَن لحقه على مذهبه، أَدلاء لك إلى الدليل.

واعقد قلبك على أمور ثلاثة:

1- كتب المذهب دليل لك إلى فهم الدليل.

2- اجعل الدليل لك غاية ومطلبًا، وذخرًا، ومدخرًا، وعلمًا وعملاً.

3- حذارِ مِن الوقيعة في أئمة العلم والدِّين.

سادسًا: التزام فقه الدَّليل مع احترام أَئمة العلم والدِّين في القديم والحديث؛ فلا نغلو فيهم، ولا نَجْفُوهم؛ وعليه فاعقد قلبك على كلمة الفصل في الأَئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- على ما يأتي:

أَنهم مِن خيار علماء المسلمين وفقهائهم، ولهم قدم صدق في الإسلام، وجهود جليّة كريمة في الفقه وأَبواب العلم، ونشره، والذبّ عن الحرمات، وصيانة الملة مِن الدخولات، والأَهواء، والبدع المضلة.

وأَنهم ليسوا بالمعصومين، بل الواحد منهم بيْن الأَجر والأَجرين في فروع الدِّين.

وأَن حقيقة اتباعهم: الأَخذ بالدليل مِن السُّنة والتنزيل.

وأَن الوحيين الشريفين حاكمان على أقوالهم وآرائهم.

وأَن أقوالهم مهمة لنا؛ للاستعانة بها على معرفة الحق بدليله.

وأَنه لا يجوز الاستغناء بمذاهبهم عن طلب الدليل.

وأَنهم لما هم عليه مِن العلم والهدى، أَقرب منَّا للصواب في اجتهاداتهم مِن اجتهادنا لأَنفسنا.

وأَن علينا الاحتياط لأَنفسنا في دنيانا، ويوم العرض على ربنا، فننظر في أَقرب أقوالهم وأَهداها إلى الحق والاحتياط، وأَبعدها عن الاشتباه، فنأخذ به.

سابعًا: اتفق الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- على منع تقليدهم، وما مِن إمام منهم إلا وقال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"؛ لهذا فإِن الأَخذ بالدليل، وإن خالف رأي صاحب المذهب؛ هو تقليد له في صورة: "ترك التقليد".

لكن أًبَى الأَتباع إلَّا التقليد الأَصم، والتعصب الأَعمى، وفي هذا عدة بلايا: مخالفة المقلِّد هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومخالفته لِإمام المذهب، ومنابذة النص؛ وكل هذه مآثم جلبها له: التعصب المقيت. نعوذ بالله مِن الهوى.

ثامنًا: أَجمع المسلمون أَنه لا يجوز للمقلِّد أَن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، فيما قَلَّد غيره فيه في مواضع الاجتهاد، ولكن يقول: هذا هو حكم كذا في مذهب الإمام الذي قلدته، أو استفتيته فأَفتى به.

تاسعًا: كل حكم فرعي مُدَوَّن في أَي مذهبٍ لا يخلو مِن واحد مِن ثلاثة أًقسام:

1- قِسْمٌ الحق فيه ظاهرٌ بيِّن: لقيام الدليل مِن كتاب أو سُنة أَو إٍجماع، وهو في كل باب مِن أبواب الفقه، ظاهر كثير؛ فهذا يجب الأَخذ به على سبيل الاتباع لصاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل التقليد لصاحب ذلك المذهب؛ لأَنه تشريع عام للأُمة، ليس مِن مجالات الاجتهاد.

2- قِسْمٌ مرجوح؛ لمخالفته الدليل: فهذا لا يجوز الأخذ به، ولا تقليد ذاك الإمام به، بل يجب دفعه، وترك الالتفات إلى العمل به، وهو على قلة في كل مذهب، لكن مُعَدَّل نسبته في كل مذهب يختلف مِن مذهب إلى آخر حسب الركون إلى الرأي في تلك المذهب قلة وكثرة؛ فالإمام أَبو حنيفة -رحمه الله تعالى- أُخذت عليه مسائل خالَف فيها الدليل، وهو أَكثر الأَئمة المتبوعين في ذلك؛ لأَنه أَكثرهم رأيًا.

فمنها في مذهبه:

تركه العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأَموال!

وتركه العمل بحديث التغريب للزاني البكر!

وفي الصلاة: عدم لزوم الطمأنينة فيها، وأَن تكبيرة الِإحرام لا تتعين للدخول فيها، ولا السلام للخروج منها!

وغيرها كثير بسطها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "إعلام الموقعين".

ومنها في مذهب الإمام مالك -رحمه الله تعالى- "وهو أَقل مِن سابقه الإمام أَبي حنيفة":

كراهة صيام الست مِن شوال!

وأَن إفراد صيام يوم الجمعة: حسن غير مكروه!

وعدم الجهر بآمين!

وعدم رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه!

وعدم قول الإمام: ربنا ولك الحمد!

والقول بعدم خيار المجلس!

ومنها في مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- "وهو أقل مِن سابقيه -رحمة الله على الجميع-":

نقض الوضوء بمجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل.

ومنها في مذهب الإمام أَحمد -رحمه الله تعالى- "وهو أَقل مِن الأَئمة الثلاثة قبله، بل هي على ندرة في مذهبه":

صيام يوم الشك احتياطًا، وهو يوم الثلاثين مِن شعبان؛ إذا كانت السماء مغيمة. وسيأتي في آخر "المبحث السادس" بيان الغلط على الإمام.

3- قِسم مِن مسائل الاجتهاد التي تجاذبتها الأَدلة؛ فهذا محل نظر الفقيه:

وهذا القسم كثير في كل مذهب؛ لأَن الوقائع متجددة، والنوازل متكررة، والمستجدات غير متناهية.

ثم هذا القسم في كل مذهب على أَربعة أَنواع:

أ- ما تصح نسبته إلى ذلك الإمام

ب- ما لا تصح نسبته إِليه وقد نُسب إليه.

ج- ما ألحق بعده على قواعد مذهبه تخريجًا عليه.

د- ما زاده بعض المتأخرين على مذهبه وقتًا بعد وقت مما لا يقره هو، بل في مذهبه ما ينقضه.

فيا مَن شُغفت بالتقليد؛ تَرَفَّق، لا تنسب إلى مَن تُقَلدهُ ما هو بريء منه، فتقع في تأثيم نفسك مرتين؛ مرة في التقليد الأصم، ومرة في التجاوز بنسبة ذلك إلى مَن تقلده، وهو بريء منه(6).

عاشرًا: باب الاجتهاد مفتوح بِشَرْطِه فَلاَ تَلْتَفِت إلى دعوى انقراض عصر الاجتهاد وسَد بابه: فهي مِن نفثات متعصبة المذاهب الذين لا يُبِيْحُوْنَ لأَنفسهم الخروج عما في كتب مذهبهم، فيريدون مِن ورائها أَن لا يخرج أَحد عليهم باجتهاد يخترق به المذاهب بالدليل والبرهان، فيقول لهم: أَنتم تقلدون المذهب الفلاني بكذا، والله -سبحانه- يقول كذا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا.

وهذا يُثير الدهماء على المقلدة، ويُوجههم للدليل، وفيه ما فيه من سَلْب حظوظ النفس. والله المستعان.

وقد سَرَت هذه زَمَنًا، ثم اخترقها المصلحون، بل أَصبح الاجتهاد ضرورة فقهية لمستجدات الحياة المعاصرة، يستحيي متعصب مِن القول بهذه المقولة، وهو أَول مَن يجتازها وما هذه المقولة في فسادها، إلا كقولهم: "أَهل الحديث ليسوا فقهاء!".

وقول الشعوبية للغض مِن العرب: "أَكثر المحدّثين مِن غير العرب!".

وهذه وأمثالها تأتي مِن قصور النظر تارة، والحمية تارة، والتتابع على الغلط تارة، والتفريط تارة، وطريق الِإنصاف: التثبت والوسطية:

فَلاَ تُوغِلَنَ إذا مَا سَبَحْتَ                              فَإِنَّ السَّلاَمَةَ في السَّاحِلِ

وبذلك يكون قد انتهى هذا المبحث الماتع، والذي دار حول تاريخ التمذهب والحث على فقه الدليل، وسوف نكتفي بهذا القدر مِن هذه السلسلة على الأقل إلى أن ينتهي شهر رمضان المبارك، نسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يرزقنا فيه العمل الصالح الخالص لوجهه الكريم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سبقت هذه المقالة مقالتان:

الأولى: تناولتُ فيها الجزء الخاص بتاريخ التمذهب مع بعض الحواشي التوضيحية.

الثانية: نشرتُ فيها كلام دكتور "بكر أبو زيد" في هذا المبحث مجردًا دون تعليقات؛ لغرض بينته هناك.

وفي المقالة نتناول فيها التعليق على باقي المبحث في الكلام على  كيفية ضبط التمذهب ليكون نابعًا مِن فقه الدليل.

ومِن الجدير بالذكر هنا: أن صنيع الدكتور "بكر أبو زيد" يدل على أن فقه الدليل عنده ليس قسيمًا لفقه التمذهب، فإما أن تأخذ بهذا أو بذاك، ولكن فقه الدليل عنده هو ما نصره أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة؛ لا سيما مدرسة أصحاب الحديث (مالك والشافعي وأحمد، ولم يخرج أبو حنيفة عنهم إلا لتقدمه قبْل زمن جمع السُّنة، وإلا فتعظيمه للدليل كتعظيمهم) أو ما نصره أصحاب الحديث مِن أصحاب المذاهب الفردية، وما نصرته الأجيال الفاضلة الأولى من المتمذهبين بمذاهب الأئمة المتبوعين، ثم بدأ الانحراف يدب شيئًا فشيئًا، وقاوم هذا الانحراف علماء أجلاء، مثل: الخطيب البغدادي، والحافظ ابن عبد البر، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فكانت تلك الصيحة الشاملة تنادي على المتمذهبة أن يضبطوا تمذهبهم بفقه الدليل، وطبـَّق "شيخ الإسلام" صورة رائعة مِن هذا، والتي لولا شرحه لأحد متون المذهب الحنبلي، وقوله عن الحنابلة أصحابنا لعُد مِن أصحاب المذاهب الفردية، وتابعته على هذا عامة المذاهب الإصلاحية، ومنها مدرسة شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" -رحمه الله-.

ومنها مدرسة العلامة "السعدي" -رحمه الله- والتي تُعد مِن أكثر المدارس المعاصِرة شبهًا بمدرسة ابن تيمية ومؤلفاته، ومؤلفات تلامذته: كالبسام وابن عثيمين شاهدة على هذا.

(2) التاريخ يجب أن يُروى كما هو كوقائع، وأما التحليل فلكل كاتب فيه نظرة، وقد ذكر الدكتور "بكر أبو زيد" فيما سبق التعرض له في المقالة الأولى ظاهرة تفقه عدد مِن التلاميذ على مجتهد بعينه في وقتٍ مبكر، وقرر أن الظاهرة لم تتحول إلى تمذهب بمعناه الكامل إلا بعد انقضاء القرون الثلاثة الفاضلة، وهو تقرير لم ينفرد به، وهو في تقريره هذا لا ينطلق مِن عداوة للفكرة -كيف وهو متمذهب-، ولكن ينطلق مِن أمانة في حكاية التاريخ، ومنهج دقيق في تحليله؛ وإلا فإن بعض المتعصبين للفكرة المذهبية يعلو بها حتى يزعم أنها وُجدت في عصر الصحابة أنفسهم؛ استدلالاً بوقائع تلمذة أو استفتاء، وعامة فالأمر قريب، ولا يترتب عليه عمل.

وكذلك ما حكاه مِن صور مِن التعصب المذهبي، وهي صور ظلت قائمة حتى العصر الحديث واعترف بها بعض المتحمسين جدًّا لفكرة المذهبية، ومنهم: الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"، والذي بالغ في الدفاع عن فكرة المذهبية؛ فسمَّى كتابه "اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية!" ويقول في مقدمة الطبعة الثانية مِن كتابه: "فقد كان مِن القراء مَن يذهب في تقليد الأئمة الأربعة مذهبًا يعتمد جُله على العصبية، والابتداع فلا يصلي إن كان شافعيًّا خلف حنفي، ولا يستجيز لنفسه الخروج عن تقليد إمامه في مسألة استقصى فيها أدلة الكتاب والسُّنة؛ فوجد الأدلة في غير جانب مذهبه، فلما قرأ هؤلاء ما كتبته في هذا الموضوع تحولوا عن عصبيتهم، وأدركتهم صحوة النظر والبحث، ووقفوا مِن ذلك عند خط الاعتدال".

والشيخ "البوطي" مِن متعصبة المذهبية، ورغم إنكاره هنا على امتناع صلاة الشافعي خلف الحنفي، ونقله لإجماع متقدمي المذاهب على صحة صلاة أصحاب المذاهب المختلفة خلف بعضهم البعض؛ إلا أنه عاد وقرر أن الشافعي عليه أن يمتنع عن الصلاة خلف الحنفي، مثلًا إذا علم أنه قد مس امرأته ولم يتوضأ؛ لأنه عند المتمذهب بالمذهب الشافعي يصلي بغير طهارة، وهذا الذي قرره البوطي قول مرجوح مِن حيث الدليل، وآثاره الجانبية تصُب في صالح عدم صلاة الشافعي خلف الحنفي فما الذي يجعل الشافعي يغامر بصلاته لو كانت ستبطل إذا كان الإمام قد صافح زوجته وهو خارج إلى الصلاة أو ما شابه ذلك؟ وقد رد متعصبة كل مذهب بصورة يرون فيها بطلان صلاة صاحب المذهب الآخر؛ ليقرروا أن على مقلدهم ألا يصلي إلا خلفهم.

وبالتالي فرواية الدكتور "بكر أبو زيد" لهذه المآسي كان بغرض التحذير مِن تكرارها؛ لا أنه متحامل على المذهبية، وإلا فهو نفسه متمذهب -كما أسلفنا-.

ونحن نعلم أن الدعوة المعاصرة إلى المذهبية صاحبتها دعوة إلى جعل المذهبية نموذجًا للتعددية والتعايش السلمي داخل المجتمعات الإسلامية، وهذا كلام جيد، ولكن قد ينطوي على مخاطر، منها:                             

1- الدعوة إلى الترخص واتباع زلات العلماء.

2- توظيف بعض الآراء ضعيفة المأخذ في الفقه الإسلامي لمسايرة الحضارة الغربية.

3- الانطلاق مِن هذا القبول للمذاهب الفقهية إلى القبول للمذاهب البدعية في العقيدة والسلوك.

ومِن ثَمَّ فيجب عندما نقرر هذا أن نستحضر ما قرره الدكتور "عمر سليمان الأشقر" مِن أن المذاهب الأربعة وغيرها مِن المذاهب الفقهية السُّنية يمكن بصورة أو بأخرى، ومِن حيث أصولها الكلية اعتبارها مذهبًا فقهيًّا واحدًا؛ هو مذهب أهل السُّنة والجماعة.

(3) يعني بذلك مَن يقول بالرجوع إلى الكتاب والسُّنة دون التقيُّد بفهم السلف للكتاب والسُّنة.

(4) تحميل الجمود المذهبي مسئولية انتشار العالمانية، هو مما تعرض له غير واحد؛ لأن جمود الفقهاء في هذه الأزمنة أعطى للطاعنين في الشريعة الفرصة لإيهام الناس أن الشريعة غير قادرة على مسايرة العصر.

(5) مِن هذا يتبين أن التمذهب وجدت بداياته في عصر مبكر ثم استقر بعد القرن الثالث، ودخلته بعض البدع، منها القول بإلزام العامي بمذهب معين بعد القرن الرابع.

(6) هذه القضية مِن أهم ما ينبغي أن تُضبط بها الدراسات المذهبية، ولو اهتم بها دارسو المذاهب لما كان منهم ردة الفعل التي أبداها بعضهم لمجرد أن ترجِّح استدراكًا استدركه عالم على آخر في ذات المذهب فيما ينسب إلى الإمام وما لا ينسب (راجع مقالة حكم حلق اللحية أو الأخذ منها).

ومَن تأمل هذا عرف معنى قول شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" عن أهم كتب المذهب الحنبلي عند المتأخرين، وهما: "الاقناع" و"منتهى الإرادات" قال: (وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه؛ فضلاً عن نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعرف ذلك مَن عرفه)، ومع ما في العبارة مِن مبالغة؛ إلا أنه يوضحها قوله قبلها: "فهؤلاء الحنابلة مِن أقل الناس بدعة"، ويعني بذلك أن تدرس مِن كتب المتأخرين، ولكن مع إنزال كل مسألة منزلتها، ومعرفة ما يصح نسبته إلى الإمام وما لا يصح، وما خرجه أصحابه في مذهبه وما اجتهدوا فيه استقلالًا، ولم يقل الشيخ هذا مِن قلة اشتغال بهذه الكتب، بل اشتغل بها تدريسًا وتصنيفًا، وله كتاب في فقه المذهب جمع فيه بيْن كتابين مِن أهم كتب المذهب، وهما: "الإنصاف" و"الشرح الكبير" على وجه مختصر، وسماه: "مختصر الإقناع والشرح الكبير"، ولولا تأخر طباعته لكان له شأن بيْن كتب المذهب التي يُعتمد عليها في التدريس.