الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 22 مايو 2016 - 15 شعبان 1437هـ

حكم حلق اللحية أو الأخذ منها

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنتعرض في هذه المقالة لقضية مشروعية إعفاء اللحية، ومذاهب العلماء في حلقها أو الأخذ منها.

إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا اتِّفَاقًا:

جاء في الموسوعة الكويتية: (إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا اتِّفَاقًا؛ لِلأْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَفْظِ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ -رضي الله عنه-ا عَنْ النبي -صلى الله عليه وسلم-: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، فَعَدَّ مِنْهَا "إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ").

وبالتالي فالمقصود هنا بيان أن أصل مشروعية إعفاء اللحية متفق عليه بيْن أهل العلم؛ للأدلة الكثيرة الواردة في هذا الباب؛ ولما تضافرت عليه نصوص الأئمة مِن المذاهب الأربعة وغيرهم على إثبات هذه المشروعية.

وإنما وقع الخلاف في الأمور التالية:

1- درجة هذه المشروعية الوجوب أم الاستحباب؟

2- هل لهذا الطلب بإعفاء اللحية حد ينقلب الأخذ مما زاد عليه إلى حكم آخر سواء كان هذا الحكم الآخر هو الإباحة أو الاستحباب؟

وسبب الخلاف في المسألة الأولى هو: هل وُجدتْ قرينة صارفة للأمر بإعفاء اللحية مِن الوجوب (كما هو الأصل فيه) إلى الاستحباب أم لا؟

وسبب طرح المسألة الثانية أدلة أبرزها:

1- ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها، وهو حديث ضعيف ولا تقوم به حجة، ولكن احتج به البعض على جواز تقصير اللحية كما سيأتي.

2- وأيضًا ما ثبت عن ابن عمر --رضي الله عنه-ما- أنه كان إذا حج أو اعتمر أخذ ما زاد على القبضة.

وبناءً على هذه المسائل فمَن قال مِن أهل العلم بوجوب إعفاء اللحية قال جزمًا بحرمة حلقها (الحلق هو إزالة الشعر)، ومَن قال باستحباب الإعفاء قال بكراهة الحلق.

فمن ثَمَّ كان لهم تفصيلات في حكم تقصير اللحية أو الأخذ منها.

وسنتعرض أولاً لحكم حلقها ثم نستعرض التفصيل في تقصيرها.

أولاً: الأئمة الأربعة يحرمون حلق اللحية وإن ذهب بعض متأخري الشافعية إلى الكراهة:

تقدمت الأدلة الكثيرة المتعاضدة الآمرة بإعفاء اللحية مما يقتضي القول بحرمة حلقها؛ لمنافاة الحلق للإعفاء المأمور به، وبالتالي ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بحرمة حلقها، وهو أمر مستقر في كتاب علماء المذاهب الثلاثة الأحناف والمالكية والحنابلة.

وثمة نزاع في مذهب "الشافعي" مِن المفيد تحقيقه؛ رغم أنه قال: "كلٌ يؤخذ مِن قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ولكن بلا شك أن الأمر الذي يتفق عليه الأئمة ألأربعة يزداد قوة في نفس العلماء وطلبة العلم؛ فضلاً عن العوام.

فنقول: إن الإمام الشافعي قد صرَّح بحرمة حلق اللحية في كتاب "الأم" فقال: "(باب أرش سلخ الجلد): وَلَوْ حَلَقَهُ حَلَّاقٌ فَنَبَتَ شَعْرُهُ كَمَا كَانَ أَوْ أَجْوَدَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْحِلَاقُ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُسُكًا فِي الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي اللِّحْيَةِ لَا يَجُوزُ فَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ وَلَا ذَهَابُ شَعْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الشَّعْرُ نَاقِصًا أَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ كَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ".

ولعل تناول الشافعي رحمه الله لمسألة اللحية عَرَضًا في ثنايا مسألة أخرى، وبعبارة موجزة أدى إلى أن يفوت الرافعي والنووي رحمهما الله هذا النص رغم تبحرهما في مذهب الشافعي فخرَّجا للشافعي قولاً بالكراهة، ولكن استدرك عليهما "ابن الرفعة" فيما حكاه عنه ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج حين قال: "قال الشيخان يكره حلق اللحية، واعترض ابن الرفعة في حاشية الكافية بأن الشافعي نص في الأم على التحريم".

ملاحظة:

حاول بعض المعاصرين تأويل  كلمة "لا يجوز" الثابتة عن الشافعي بأنها تعني: "لا يباح" فتحتمل الكراهة والتحريم، فتحمل على الكراهة بناءً على قول الرافعي والنووي، وهو تعسف بعيد كما لا يخفى!

كما حاول البعض تأويل قول النووي بأنه يعني الكراهة التحريمية، وهو أمر تأباه نصوصه المفصلة.

ويبقى أن الشافعي قد نصَّ على التحريم، وفات هذا النقل الرافعي والنووي فقالا بالكراهة، وتبعهما المتأخرون.

والذي يعنينا الدليل في المقام الأول ثم اتفاق الأئمة الأربعة على استفادة حكم حرمة الحلق منه في المقام الثاني.

وتبقى مسألة تحقيق المعتمد في مذهب الشافعية مسألة ثانوية لا يعتني بها إلا الباحثون في هذا المذهب مِن حيث تحريره كمذهب، وإن كانت لن تفيد كثيرًا في موازنة أو ترجيح، بل ربما يكون السؤال الجدير بالبحث هو: ماذا لو وقف الرافعي والنووي على هذا النقل عن الشافعي؟ أظن أن الإجابة معلومة ومحسومة.

ثانيًا: حكم تقصير اللحية:

يمكننا إذا تتبعنا النص التالي مِن كتاب "فتح الباري" للحافظ ابن حجر، والذي تضمن نقل تفصيل الإمام الطبري للمسألة أن نستخرج الأقوال في المسألة، ونزيدها أيضًا بنقول عن هؤلاء العلماء لمزيدٍ مِن الإيضاح.

يقول الحافظ ابن حجر: "قُلْتُ: الَّذِي يظْهر أَن ابن عُمَرَ كَانَ لَا يَخُصُّ هَذَا التَّخْصِيصَ بِالنُّسُكِ، بَلْ كَانَ يَحْمِلُ الْأَمْرَ بِالْإِعْفَاءِ عَلَى غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي تَتَشَوَّهُ فِيهَا الصُّورَةُ بِإِفْرَاطِ طُولِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ عَرْضِهِ، فَقَدْ قَالَ الطَّبَرَيُّ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَكَرِهُوا تَنَاوَلَ شَيْءٍ مِنَ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَمِنْ عَرْضِهَا، وَقَالَ قَوْمٌ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ يُؤْخَذُ الزَّائِد ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ إِلَى بن عُمَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَى عُمَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ كُنَّا نُعَفِّي السِّبَالَ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ. وَقَوْلُهُ: نُعَفِّي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ نَتْرُكَهُ وَافِرًا، وَهَذَا يُؤَيّد مَا نقل عَن ابن عُمَرَ، فَإِنَّ السِّبَالَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ سَبَلَةَ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ مَا طَالَ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فَأَشَارَ جَابِرٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَصِّرُونَ مِنْهَا فِي النُّسُكِ ثُمَّ حَكَى الطَّبَرَيُّ اخْتِلَافًا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنَ اللِّحْيَةِ هَلْ لَهُ حَدٌّ أُمْ لَا فَأَسْنَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَخْذِ الَّذِي يَزِيدُ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ الْكَفِّ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا مَا لَمْ يُفْحِشْ، وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ، قَالَ: وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَتِ الْأَعَاجِمُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَصِّهَا وَتَخْفِيفِهَا، قَالَ: وَكَرِهَ آخَرُونَ التَّعَرُّضَ لَهَا إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ وَأَسْنَدَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ وَاخْتَارَ قَوْلَ عَطَاءٍ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَوْ تَرَكَ لِحْيَتَهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا حَتَّى أَفْحَشَ طُولُهَا وَعَرْضُهَا لَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَنْ يَسْخَرُ بِهِ وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ لَا أَعْلَمُ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا إِلَّا هَذَا. اهـ. وَقَدْ ضَعَّفَ عُمَرَ بْنَ هَارُونَ مُطْلَقًا جَمَاعَةٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ يُكْرَهُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ وَقَصُّهَا وَتَحْذِيفُهَا وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا إِذَا عَظُمَتْ فَحَسَنٌ بَلْ تُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا يُكْرَهُ فِي تَقْصِيرِهَا كَذَا قَالَ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي الْأَمْرِ بِتَوْفِيرِهَا قَالَ وَالْمُخْتَارُ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ النُّسُكِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ فِيهِ" (انتهى كلام الحافظ ابن حجر).

وبعد هذا العرض، ومع استحضار ما سبق في مسألة الحلق فيمكننا تلخيص المسألة كالتالي:

الأخذ مِن اللحية ثلاث درجات:

الأولى: الحلق أو التقصير الفاحش، وسيأتي وصف الإمام الطيبي له بأنه تقصير للحية حتى تكون كذَنب الحمام.

الثاني: الأخذ مِن ما دون القبضة، ولكن لا يصل إلى الحالة الأولى.

الثالثة: أخذ ما زاد على القبضة.

ويمكن تلخيص أقوال العلماء في هذه الدرجات كالتالي:

1- تحريم الدرجات الثلاث؛ نسبه الطبري إلى بعض المتقدمين، وهو مذهب ابن باز وابن عثيمين مِن المعاصرين.

2- تحريم الأولى والثانية وإباحة الثالثة، وهو مذهب الأحناف، وبعض الحنابلة، منهم الإمام أحمد نفسه وابن تيمية.

3- تحريم الأولى واستحباب الثالثة، وهو مذهب معظم المالكية.

4- كراهة الثلاث درجات، وهو مذهب النووي مِن الشافعية.

5- كراهة الأولى وإباحة الثانية واستحباب الثالثة وهو مذهب الغزالي مِن الشافعية.

وهذا بيان بعض النقول للقائلين بكل قول مِن الأقوال السابقة:

القول الأول: مَن يرى أن الحلق محرم مطلقًا، وأن التقصير محرم مطلقًا (يحرم الدرجات الثلاث التي سبق بيانها):

ودليلهم أن الأدلة أمرت بالإعفاء، وهي أدلة مطلقة لم يَرد لها مخصص، واعتذروا عن حديث ابن عمر بأنه موقوف، وممن يقول بهذا مِن المعاصرين: الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، ويمكن أن يُحمل عليه قول الطبري فيما حكاه عنه الحافظ في الفتح حيث قال: "ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَكَرِهُوا تَنَاوَلَ شَيْءٍ مِنَ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَمِنْ عَرْضِهَا"؛ هذا على اعتبار أن الكراهة في كلام الطبري تحريمية، وأن مَن عرفنا مذاهبهم ممن كان معاصرًا للطبري أو سابقًا عليه كانوا يقولون بتحريم الحلق.

القول الثاني: مَن يرى أن الحلق محرم وأن التقصير محرم فيما دون القبضة وإباحة أخذ ما زاد على القبضة:

وهذا هو المشهور عند الأحناف والحنابلة، وهؤلاء اعتبروا أن فعل ابن عمر له حكم الرفع لاعتبارات وقرائن، وخصوا به حديث الإعفاء أو فسروه به.

جاء في مسائل حرب بن إسماعيل الكرماني (باب: إحفَاءِ الشَّوَارِب وإعفَاءِ اللِّحَى): ("سُئل أحمَد عن الأَخذ من اللحيَة؟ قال: "كان ابن عُمَر يَأخُذ منها ما زاد على القَبضَة"، وكأنه قد ذَهَب إلَيه. قيل له: فالإعفاء يُروَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: :كَأنَّ هذا عِندَه إعفاءٌ").

وذهب هؤلاء إلى أنه ما دام أن التخصيص الوارد في حديث ابن عمر هو بالقبضة فلا يتعداه إلى غيرها.

وبالغ ابن عابدين في حكم التقصير فيما دون القبضة فقال: "وصرَّح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة بالضم، ومقتضاه الإثم بتركه إلا أن يحمل الوجوب على الثبوت، وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة، ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد، وأخذ كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم".

فعند ابن عابدين (الأخذ مما دون القبضة محرم، وأخذ ما زاد عليها فيه خلاف، وقد يصل إلى الوجوب).

ويُلاحظ أن نفي ابن عابدين للخلاف في مسألة ما دون القبضة يحتاج أن يقيد بعلماء مذهبه أو نحو ذلك؛ لثبوت الخلاف عن غيرهم.

وكذلك عند الحنابلة.

قال اللبدي في حاشيته على نيل المآرب: (قوله: "ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها" وعبارة الإقناع: "ولا يكره أخذ ما زاد الخ ". أقول: حاصل كلام المصنف كغيره أن حلقها، ومثله قصُّها كلها ونتفها ونحو ذلك، حرام، وأن السُّنّة عدم أخذ شيء منها، وأن أخذ ما زاد على القبضة لا بأس به، ولا يكره، وأما أخذ ما دون قبضتِهِ بحيث لا يستأصلها فلم أجد أحدًا تعرّض له. إلا أني رأيتُ بعض الحنفية صرّح بالإجماع على عدم إباحته. وكذا مفهوم نص الإمام أحمد)

وقال شيخ الإسلام بن تيمية في شرح العمدة: (وَأَمَّا إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ وَلَوْ أَخْذَ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ لَمْ يُكْرَهْ، نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ مَا تَطَايَرَ مِنْهَا. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- (كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَأَمَّا حَلْقُهَا فَمِثْلُ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا وَأَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ).

ويلاحظ هنا أن ابن تيمية اعتمد القبضة كفاصل بين التحريم والإباحة، وأنه لا بأس بأخذ ما تطاير منها وهي مسألة ثابتة نصًّا عن الإمام مالك، وحكاها هنا ابن تيمية كجزءٍ مِن مذهب الحنابلة، وهي مسألة منفصلة بمعنى أن مَن لم تبلغ لحيته القبضة أصلاً له أن يأخذ ما شذ وتطاير منها.

القول الثالث: تحريم الحلق واستحباب أخذ ما زاد على القبضة:

وهو مذهب معظم المالكية ومعظمهم أقوالهم غير صريحة في التقصير عن القبضة.

- قال محمد عليش في منح الجليل شرح مختصر الخليل: (ويحرم على الرجل حلق اللحية والشارب، ويؤدب فاعله).

- وفصل ابن عبد البر في الاستذكار المسألة فقال: (رَوَى أصبغ عن بن الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مَا تَطَايَرَ مِنَ اللِّحْيَةِ وَشَذَّ. وَقَالَ: فَقِيلَ لِمَالِكٍ فَإِذَا طَالَتْ جَدًّا فَإِنَّ مِنَ اللِّحَى مَا تَطُولُ قَالَ أَرَى أَنْ يؤخذ منها وتقصير. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْمُصَنَّفِ قَالَ حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ هَارُونَ عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا.

وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا بن الأعرابي قال حدثني سفيان عن بن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْخُذَ من باطن اللحية وروى سفيان عن بن عجلان عن نافع عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعْفِي لِحْيَتَهُ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ سَوَاءً، وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بن عُمَرَ كَانَ إِذَا قَصَّرَ مِنْ لِحْيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يَقْبِضُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُ مِنْ طَرَفِهَا مَا خَرَجَ مِنَ الْقَبْضَةِ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يَرَى لِلْحَاجِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَأْخُذُ مِنْ عَارِضَيْهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَأْخُذُ من لحيته، وكان بن سِيرِينَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ جَوَانِبِ اللِّحْيَةِ).

ومِن ذلك  كلام القاضي عياض  في إكمال المعلم بفوائد مسلم حيث قال: (قال القاضي: يقال: عفوتُ الشَّعْرَ وأعفيتُه لغتان، وكُرِه قَصُّها وحلقُها وتحريقُها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك، وسُنَّةُ بعض الأعاجم حلقُها وجزُها وتوفير الشوارب وهى كانت سبرةُ الفرس، وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرةُ في تعظيمها وتحليتها كما تُكره في قصِّها وجزّها، وقد اختلف السلف هل لذلك حَدٌّ؟ فمنهم من لم يُحدِّد إِلَّا أنه لم يتركها لحدِّ الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًا، ومنهم من حدَّد، فما زاد على القبضةِ فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إِلَّا في حجٍّ أو عُمرةٍ).

وقوله: (وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن) قد يفهم منه إباحة الأخذ مطلقًا، ولكنه عاد وذكر خلاف السلف في الحد الذي ينبغي عنده أن يقصر مِن لحيته، وهو إما الشهرة أو الطول الفاحش أو الزيادة على القبضة، ولم يتعرض لمن نقص عن كل ذلك.

القول الرابع: مَن يرى أن الحلق والتقصير مكروهان مطلقًا (يقول بكراهة الدرجات الثلاث):

وهؤلاء حملوا أحاديث الأمر بإعفاء اللحية على الاستحباب لقرائن رأوها (وتقدم مناقشة أثر خفاء قول الإمام الشافعي بالتحريم على هذا المذهب)، ولم يروا تخصيصها بحديث الأخذ من طول اللحية وعرضها لضعفه، ولا بأثر ابن عمر (ولعلهم حملوه على الحج و العمرة فقط)، ومِن أشهر هؤلاء الإمام النووي حيث قال: (وَالصَّحِيحُ كَرَاهَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مُطْلَقًا، بَلْ يَتْرُكُهَا عَلَى حَالِهَا كَيْفَ كَانَتْ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وأعفوا اللحى، وأما الحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا فَرَوَاهُ الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به).

ويمكن أن يُصنف المباركفوري مِن ضمن هؤلاء حيث قال في نهاية بحثه عن أثر ابن عمر في أخذ ما زاد على القبضة: (فَأَسْلَمُ الْأَقْوَالِ هُوَ قَوْلُ مِنْ قَالَ بِظَاهِرِ أَحَادِيثِ الْإِعْفَاءِ، وَكَرِهَ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِنْ طُولِ اللِّحْيَةِ وَعَرْضِهَا واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

ومِن الوارد أن يحمل كلام المباركفوري على الكراهة التحريمية فيكون مِن ضمن أصحاب القول الأول.

القول الخامس: مَن يرى أن الحلق مكروه، وأن التقصير جائز ما لم يكن فاحشًا دون أن يحده بحد:

قال الغزالي في الإحياء فيما ينبغي أن يُنظف مِن البدن: (الثامنة ما طال مِن اللحية، وإنما أخرناها لنُلحق بها ما في اللحية مِن السنن والبدع إذ هذا أقرب موضع يليق به ذكرها، وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل: إنْ قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة؛ فلا بأس، فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة وقالا تركها عافية أحب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: اعفوا اللحى. وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب، فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ النية).

وقد حكاه عنه النووي وتعقبه كما تقدم مِن بيان مذهب الإمام النووي في أنه يرى كل التقصير مكروه كالحلق.

ومثله قول الطيب في شرح المشكاة: (الحديث الثاني والثالث عن عمرو: قوله: (كان يأخذ مِن لحيته): هذا لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أعفوا اللحى)؛ لأن المنهي عنه هو قصها كفعل الأعاجم أو جعلها كذنب الحمام. والمراد بالإعفاء التوفير منه كما في الرواية الأخرى. والأخذ من الأطراف قليلاً، لا يكون مِن القص في شيء).

(ورغم أن الحديث ضعيف؛ إلا أن هذا لا ينفي أن ما ذكره الطيبي في توجيه الحديث يعبِّر عن مذهبه في المسألة).

تنبيه: مسألة ما شذ وتطاير:

أكثر المالكية مِن ذِكْر هذه المسألة عن الإمام مالك، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية مِن الحنابلة كما تقدَّم.

وهي مسالة منفصلة عن مسألة التقصير ومدى جوازه، والحد الذي يجوز عنده؛ بحيث يجوز بناءً على ذلك لمن كانت لحيته دون القبضة ولو كان مذهبه حرمة حلقها أو تقصيرها أكثر مِن ذلك أن يأخذ ما شذ وتطاير.

الترجيح:

بناءً على ما تقدَّم؛ فإن أعدل الأقوال فيما نرى قول مَن قال بحرمة حلقها، وقد قدَّمنا أنه مذهب الأئمة الأربعة وبيَّنا سبب نشأة الخلاف عند الشافعية رغم ثبوت التحريم عن الشافعي.

كما نرى حرمة تقصيرها تقصير فاحشًا، وقد بالغ ابن عابدين فعدَّ هذا اتفاقًا، وقدمنا أن قول ابن عابدين فيه قدر مِن التجوز؛ إلا أنه يدل على استهجان العلماء ليس لحلق اللحية وفقط، بل لتقصيرها إذا كان التقصير فاحشًا.

والقول بجواز التقصير غير الفاحش مستنده الصحيح هو اثر ابن عمر، وبالتالي فيكون هو المخصص لحديث الإعفاء، فالذي نميل إليه اعتبار أن الحد المنقول عن ابن عمر هو الفاصل بيْن الأخذ المنهي عنه والمأذون فيه.

وبالإضافة إلى هذا، فنرجح القول بجواز أخذ ما شذ وتطاير كما ورد عن الإمام مالك، وهذا ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة كما سبق نقله حيث قال في شرح العمدة: (وَأَمَّا إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ وَلَوْ أَخْذَ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ لَمْ يُكْرَهْ، نَصَّ عَلَيْهِ >أي الإمام أحمد  <كَما تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ مَا تَطَايَرَ مِنْهَا.

وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- (كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَأَمَّا حَلْقُهَا فَمِثْلُ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا وَأَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ).

تنبيهات:

1- رواية الخلاف لعذر المخالف لا لمخالفة ما ظهر مِن الأدلة؛ لا سيما إذا علمنا أن هذا هو فهم الأئمة الأربعة لها.

2- يتضح مِن استعراض مذاهب العلماء: الفرق بيْن الحلق والتقصير الفاحش، وبين التقصير مع بقائها وافرة، والخلاف في هذه الدرجة أكثر اعتبارًا مِن الخلاف في التي قبلها، والذي نفى بعض العلم اعتباره منهم ابن حزم في مراتب الإجماع وسكت عليه ابن تيمية (وعبارة ابن تيمية الشديدة في الحلق في شرح العمدة قد تشهد لهذا).

3- القول بكراهة الحلق لا يبيح الدعوة إلى فعل هذه المكروه أو استحسانه أو أن تعكس المسألة فيتعرض القائلون بالكراهة لمذهب أئمتهم القائلين بالتحريم، وكأنه هو غير السائغ، وإنما غايته ألا يعنـَّف المخالف، ولو نظرنا إلى أشهر مَن اكتفى بالكراهة وهو الإمام النووي؛ لوجدنا أن عباراته في بيان معنى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعفاء ربما احتج بها القائلون بالوجوب لقوة عباراتها.

4- وفي النهاية: نؤكِّد على أن تدارس هذه المسألة وغيرها مِن المسائل هو مدارسة علمية لينبني عليها العمل، ودون الوقوف عندها كثيرًا، والانشغال بها عن مهمات الدين بشمولها.

والله المستعان.