الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 13 أبريل 2016 - 6 رجب 1437هـ

وماذا بعد أن اختلف التجار... ؟!

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنعلم يقينًا أن الإسلام رغَّب في العمل، ورهَّب من التكاسل، ومِن أن يكون الرجل عالة على غيره ينتظر مَن ينفق عليه، فعن رافع بن خَدِيجٍ -رضي الله عنه- قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، والصِّدِّيقِينَ، والشُّهَدَاءِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره).

فلا بد للإنسان أن يأكل مِن عمل يده، ومن الكسب الحلال، والتجارة تحتاج إلى مهارة وذكاء وفطنة حتى يستطيع التاجر أن يربح من تجارته، فالتجارة لها قواعد وأصول، ولها ضوابط شرعية حددها الشارع وذلك حفاظًا على المجتمع ونشرًا للعدل فيه، ودفعًا للظلم الذي مِن المحتمل أن يتكبده التاجر أو بعض أفراد المجتمع.

ولا بد للتاجر أن يكون على دراية بضوابط الشرع في البيع والشراء؛ حتى لا يقع في بعض النواهي والمحرمات، ولا بد للتاجر كذلك أن يحسن قراءة الواقع، وأن يتحلى بعمق الفهم والنظرة الشمولية في تجارته، وأن يتمتع كذلك برصيد كافٍ من رأس المال والخبرة معًا، وأن يدرك المتغيرات من حوله كالحالة الاقتصادية، وحالة العملاء والزبائن، ومواسم الرواج التجاري، ونحو ذلك.

وكذلك الداعية الذي يدعو إلى الله -تعالى- فهو تاجر ومعه بضاعة يريد أن يبيعها ويربح مِن خلفها، ورِبح الداعية وأجره عند الله -تعالى-، وقد دخل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الإسلام بعد الثلاثين، فحوله الإسلام من تاجر يسعى وراء الربح إلى رجل يتاجر مع الله عندما آثر أن يوزع قافلته التجارية على الفقراء، ردًّا على مزايدات التجار الذين قالوا له: نعطيك ضعف ثمنها ربحًا! فقال عثمان: عندي مَن يدفع أكثر. قالوا: نعطيك ضعفين. قال: عندي من يدفع أكثر، ثم قال: "لقد وزعتها في سبيل الله!".

عثمان -رضي الله عنه- الذي حمل الذهب في حجره، وصبه في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذهب بيده، وينظر إلى الجيش الذي ينتظر المال انتظار الظمآن للماء، ثم يقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، وكان ذلك في غزوة تبوك.

وأكثر الناس يعرفون كيف يتاجرون في الدنيا، وكيف يحصِّلون الأموال من الحلال أو من الحرام، ولكن القليل منهم مَن يعرف كيف يتاجر مع الله -عز وجل-، وكيف يربح مع الله -عز وجل- أعظم الربح، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29)، وكما أن للتجارة في الدنيا قواعد وضوابط وأصولاً، فكذلك التجارة مع الله لها قواعد وضوابط وأصول.

ولنتخيل أن مجموعة كبيرة مِن التجار يعملون ويتاجرون، ويبيعون ويشترون في إحدى الأسواق الكبيرة المعروفة، هذا السوق له ضوابطه في العمل، وله قانونه الذي يضبط العمل فيه، وله إدارة مسئولة عنه وعن تنظيم العمل بداخله، وتنظيم العلاقة بين التجار والعملاء والزبائن، وفي يوم من الأيام حدث خلاف شديد بين إدارة السوق وبين التجار في أمر من الأمور، واشتد الخلاف بينهم.

فانقسم التجار إلى فريقين: الفريق الأول يرى أنه لا بد من التريث والتروي والموضوعية في معالجة الأمر، والفريق الثاني يرى أنه لا بد من الوقوف بكل حزم وحسم أمام الإدارة، ثم احتدم الخلاف وبلغ ذروته، وهنا قرر الفريق الثاني أن يقوم بحرق السوق بأكمله نكاية في الإدارة، وأن يدمره ولا يذر فيه أخضرَ ولا يابسًا، وبهذا نتخلص من الإدارة الغاشمة ونبدأ نحن مرحلة جديدة في السوق، فقال أصحاب الفريق الأول: ما هذا؟ ماذا تقولون؟ كيف تقومون بحرق السوق وتدميره؟! نحن الخاسرون، نحن التجار، لا بد أن نكون نحن أحرص الناس على بقاء السوق، بضاعتنا ستبور، سمعتنا ستنهار...

فانظر إلى البون الشاسع بين الفريقين، ففكرة الفريق الثاني مؤداها الدمار الشامل بكل صوره وأنواعه، وهذا يرجع إلى جهلهم وقلة خبرتهم، وإلى فكرهم العقيم ومنهجهم المنحرف في التغيير.

وللأسف هكذا نرى بعض التيارات والكيانات اليوم؛ تعيش دور الفريق الثاني من التجار بسبب خلافهم مع الإدارة والقيادة، فيريدون تدمير البلاد بأسرها، ويسعون في الأرض فسادًا، مع وقوع الظلم من القيادة، لكن ليس هكذا تورد الإبل وتعالج المشاكل والمعضلات ويرفع الظلم، فأنا أنادي أولئك الذين صاروا في طريق تجار الحرق والتدمير، وأسألهم: أين الأخلاق والمبادئ والضوابط الشرعية؟ أين الارتقاء بالفكر من أجل الترويج لبضاعتك، وما الداعية إلا تاجر يتاجر مع الله بنشر بضاعته ودعوته بين الناس؟!

أين الاستقراء الدقيق الجيد للواقع؟ أين تضافر الجهود مِن أجل المحافظة على رأس المال الدعوي؟ أين عمق الفهم الذي لا بد وأن يتحلى به الداعية؟ بل أين ومضات الإصلاح في منهجك؟ أين الثراء الفكري الذي تدعيه؟ أين الوعي والرصيد الثقافي عندك؟!

فلمثل هؤلاء نقول: أنتم لم تبلُغوا بعد، أعني لم تبلغوا مرحلة الرشد الفكري والدعوي والسياسي، فلا بد لنا جميعًا أن نتخيل حال الفريق الأول لو أتيحت له الفرصة، وخاض الحوار مع الإدارة والقيادة في السوق، ثم لنتخيل أيضًا كيف يكون الحال لو قام الفريق الثاني بحرق السوق وتدميره، ولا بد لكل مَن يطالع ويشاهد المعركة من الإدارة والعملاء والزبائن أن يقفوا ويساندوا الفريق الأول، وأن تٌذلل له الصعاب، وأن تهيئ له الظروف، وأن يُعطى الفرصة الكاملة؛ حتى نحافظ جميعًا على رأس مالنا، وعلى بضاعتنا، ومِن ثَمَّ على بلادنا ومجتمعنا؛ فلو تركنا الفريق الأول وما يريد لهلكوا وهلكنا جميعًا، ولو أخذنا على أيديهم لنجوا ونجونا جميعًا.

والله المستعان.