الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 11 يونيو 2006 - 15 جمادى الأولى 1427هـ

المنهج العلمي (1)

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد ..

العلم هو الركيزة الأساسية التي ترتكز عليها دعوتنا لتنطلق منها إلى تعبيد الناس لربهم ، و الفهم الشامل لدين الله الذي ينبغي أن نبني عليه أي تطبيق واقعي للإسلام في حياة المسلمين في جميع نواحي الحياة.

و على الرغم من الإيمان الراسخ بهذه الحقيقة لدى قطاع كبير من الملتزمين ، فإنهم غالبا ما يصابون بحيرة لا سيما في بداية الالتزام ، أي شيء يدرسون و بأي أمر يبدءون ، و يساعد على هذه الحيرة أنه في هذه الحقبة التي تعيشها أمتنا بصفة عامة و دعوتنا بصفة خاصة ، يلقى على كاهل المتعلم مسئولية اختيار المادة التي يدرسها و الكتاب الذي سيرجع إليه و الدرس الذي سيحصده و لعل الخطب كان سيكون هينا إذا وجدت معاهد علمية تتولى إدارتها وضع الجدول العلمي و الزمني المناسبين ، و لكن في ظل غياب مثل هذه المعاهد أو في ظل ضعف الموجود منها و بعده عن منهج السلف في قليل أو كثير فلابد من تبصير الطلاب بما يجب عليهم اتباعه للوصول إلى درجة اتقان علمي مناسبة تمكنه من الدعوة إلى الله على بصيرة .

 

أولا : المصادر الرئيسية للعلوم الدينية.

 

من المعلوم أننا ننادي بالعودة إلى الكتاب و السنة بفهم سلف الأمة ، و على ذلك فالأمر في غاية الوضوح فيما يتعلق بالمصادر الرئيسية للمعرفة و هي الكتاب و السنة و آثار السلف ، و في ذلك يقول بن القيم في نونيته:

العلم قال الله و قال رسوله                           قال الصحابة ليس بالبهتـان

 ما العلم نصبك للخلاف سفاهة                     بين الرسول وبين قول فلان

ومن المعلوم أن طبيعة القرآن لكونه وحيا منزلا من عند الله عز و جل بألفاظه و معانيه و الأمة مقيدة بحفظ ألفاظه ، فإنه يتناول جميع الجوانب التي شرعها الله للناس بطريقة بليغة بديعة يمتزج فيها الترغيب مع الترهيب ، و يمتزج فيها ذكر العقائد مع الأحكام و ذكر قصص الصالحين مع ذكر قصص المعاندين كل هذا في سياق بديع.

يعرف الخلق بربهم و خالقهم و حقه عليهم و يبين لهم ذلك الحق و يرغبهم و يرهبهم و يضرب لهم الأمثال من أحوال السابقين من مؤمنين و كفار

و السنة أيضا يوجد منها طائفة من النصوص على هذا المنوال و طائفة من السنن القولية و كثير من السنن العملية فيها وصف تفصيلي و وضع حدود و ضوابط للعبادات فمثلا نجد في القرآن أن الأمر بالإنفاق قد تكرر كثيرا مدحا للمنفقين و ذما للممسكين و ترغيبا و ترهيبا و لكن لم يأت ذكر أنواع الأموال التي تزكي و التي لا تزكي و الأنصبة و المقادير و نحو هذا.

و أما السنة فتوجد طائفة من النصوص تحض على الإنفاق و تذم الإمساك مؤكدة لما في القرآن الكريم وطائفة أخرى " مبينة " للأحكام التفصيلية التي سبقت الإشارة إليها و أما آثار السلف ففيها من النوع الأول طائفة من الآثار يكون فيها نثر لبعض المعاني الواردة في النصوص القرآنية و النبوية للبيان و الإيضاح و ضرب الأمثال و طائفة من الآثار المبينة للأحكام منها ما هو مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم أو له حكم الرفع و هذا قد ذكرناه في الكلام على السنة.

و منها ما يمثل شرحا للسنة نفسها أو اجتهادا في مسائل لم يرد فيها نص صريح في الكتاب أو السنة و هي تمثل ما في مصادر المعرفة الإسلامية بصورة أو بأخرى فالإجماع الذي يقر كل الأصوليين بحجيته هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، و كذا فمذهب الصحابي حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ، و أما إذا اختلفوا فالراجح أيضا أنه لا يجوز الخروج على القدر المتفق عليه بينهم بناء على مسألة إذا اختلف الصحابة في مسألة ما على قولين هل يجوز إحداث قول ثالث فمن العلماء من قال بعدم الجواز و منهم من قال بجواز ذلك بشرط ألا يخالف هذا القول الجديد القدر المتفق عليه بين القولين الأوليين و هذا هو أعدل الأقوال و ذهب البعض إلى جواز إحداث قول ثالث مطلقا و هذا قول شاذ مترتب عليه مصادمة أهل الإجماع المتفق عليه بين الأمة .

كما أن فتاوى الصحابة هي المصدر الذي تعلمت الأمة منه مسائل القياس و مراعاة المصالح و غيرها من المصادر الأخرى .

الحاصل أن المصادر الرئيسية للمعرفة الإسلامية هي الكتاب و السنة و آثار الصحابة .

هل يمكن الاقتصار على هذه المصادر الأصلية ؟

إن الرجوع إلى المصادر الأصلية مباشرة أمر أصبح فيه قدر من الصعوبة بعد زمان الصحابة رضي الله عنهم لأمور كثيرة من عامل اللغة و دخول الأعاجم في دين الله و استعجام كثير من العرب في لسانهم وعدم فهمهم الصحيح للغة و منها عامل البعد عن زمان التشريع الذي كان يغني المتعلم عن احتياجه إلى كثير من القرائن الحالية التي تعينه على فهم المقصود ، و لذلك كثرت عناية الصحابة رضي الله عنهم بإعلام من بعدهم بأسباب نزول القرآن و ورود السنة و قد تميز كل منهما بعد ذلك حتى أصبح علما مستقلا.

الحاصل أنه و مع أواخر عصر الصحابة بدأت الحاجة إلى:

- شرح أوفى للمسائل الشرعية من الصحابة للتابعين ثم من التابعين لمن بعدهم من باب أولى.

- تصنيف و ترتيب المسائل بحيث يقسم الكلام على المسألة الواحدة في سياق واحد ، لأمن جانب اللبس و الغموض الذي بدأ يظهر من جراء تعلم البعض لجزء من الدين و ترك البعض الآخر الذي قد يكون تقييدا أو تخصيصا أو بيانا للبعض الذي اقتصر عليه.

و من هنا نشأت العلوم الإسلامية المعروفة الآن التي لم تكن أبدا بديلا عن القرآن و السنة و إنما كانت " تبويبا و ترتيبا " لهما مع شرحهما لتناسب همم المتأخرين و غني عن الذكر أن القرآن و السنة ظلا هما العلمين الرئيسيين للأمة على الرغم من وجود العلوم المشار إليها و أن العلوم المشار إليها ظل محورها الرئيسي هو الأدلة " من القرآن و السنة و آثار الصحابة رضي الله عنهم .

إلا أنه قد حصل إنحراف في هذه القضية بعد ذلك على محورين :-

الأول : قلة العناية بالقرآن و السنة اكتفاء بعلوم العقيدة و الفقه و غيرها ومن المعلوم أن هذه العلوم و إن كانت شرحا للكتاب و السنة فإنما كان ذلك من أبواب بعينها و ربما تسقط أبواب معينة من العلم و الدين أو تكون في أبواب يغلب على الظن أنها مما لا يحتاج إليه طلاب العلم بينما يحتاجها عامة الخلق بل ربما وجدتها منفصلة في القرآن أكثر من غيرها كبعض أحكام البيوع لا سيما الربا و القرض و حكم الكتابة و الاستثياق فيه.

كما أن تلقي الخطاب الشرعي في صورته الأصلية ينتج أفرادا أكثر اتزانا و شمولية و يقضي على ظاهرة الانفصال بين العلم و العمل

الآفة الثانية : أن كتب العلوم المختلفة بعد فترة من الزمان و كنتيجة للضعف الذي أصاب الأمة و القول بغلق باب الاجتهاد قد خلت من الأدلة و اكتفت بتقرير المسائل فزاد الطين بلة كما يقولون .

و لقد كان شيخ الإسلام بن تيميه و مدرسته المباركة - التي نعتبر أنفسنا صدى من أصدائها – أثر كبير في إعادة الأمور إلى نصابها و معالجة هاتين السلبيتين فاعتنوا بالقرآن و كان لشيخ الإسلام و لتلميذه بن القيم باع كبير في هذا الجانب إلا أن تفسير تلميذهما بن كثير هو الذي كتب له القبول العام حتى عند المخالفين لهذه المدرسة المباركة و كانت عنايتهم أيضا بشرح السنة و نشر العلم بها

كما انصرفت جهود شيخ الإسلام إلى الدعوة إلى تعلم مسائل الاعتقاد و العمل بها من الكتاب و السنة دون تعصب لأحد من الأئمة كائنا من كان و طبق تلاميذه هذا الأمر عليه فقال قائل " شيخ الإسلام حبيب إلينا و الحق أحب إلينا " و نحن بحمد الله و إن تخلصنا من السلبية الثانية ، فلدينا قدر لا بأس به من السلبية الأولى التي يستدعى منا وقفة تصحيح لمضمارنا السلفي .

و لذلك فالذي نرجو الله تعالى أن يوفقنا فيه هو الجمع بين الرجوع إلى المصادر الأصلية للمعرفة الإسلامية كتابا و سنة و آثارا ،  مع تعلمه العلوم الإسلامية المختلفة التي هي نتاج جهد كبير من العلماء الربانيين في شرح هذه المصادر و تهذيبها و تبويبها و هذا موضوع الحلقة القادمة من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى. و الله الموفق و الهادي إلى سواء السبيل .