كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
لماذا تـُدَرِّسُون كتابَ "منة الرحمن" دونَ غيره مِن كتب العقيدة؟
سؤال يُطرَح كثيرًا ونـُعْرِض عن الجواب عنه؛ إيثارًا لسلامة الصدور، وللبُعد عن مدح النفس -ولو في مقام الدفاع-، إلا أن هذا الصمت جَرَّأ الكثيرين على التمادي في هذا الزعم؛ مما دفعني لكتابة هذا المقال رغم ما يُخالجني مِن تردُّدٍ؛ لكون مدح الإنسان لشيخه نوعًا مِن المدح الضِمني لنفسه، ومع ذلك فإني قد حاولت جهدي ألا ألتزم بالعَرْض المُجَرَّد مُكتفيًا بذكر الوقائع بعيدًا عن المدح فضلاً عن المبالغة فيه.
وبداية أود أن أشير إلى أن الشيخ ياسر برهامي وعددًا كبيرًا مِن المُشتغِلِين بتدريس العقيدة -بعضهم مِن تلاميذ الشيخ ياسر برهامي، وبعضهم مِن غيرهم، بل إن منهم مَن لم يَلْقَ الشيخ ياسر برهامي ولا يعرف عنه إلا اليسير- يُدَرِّسون كتاب "منة الرحمن". وأما كون الشيخ ياسر برهامي -فضلاً عن غيره- لا يُدَرِّس إلا "منة الرحمن"؛ فأَمْرٌ عارٍ تمامًا مِن الصحة، وبمطالعةٍ يسيرة لـ"السلاسل الصوتية" المسجلة للشيخ على شبكة الإنترنت ستجد شرحًا لكتاب "فتح المجيد"، وشرحًا لـ"معارج القبول"، وآخر لـ"الواسطية"، وغيرِها مِن كتب العقيدة... وبهذا يتبين أن طرح السؤال بهذه الصيغة فيه قـَدْرٌ من التـَّجَنـِّي!
ويبقى الجواب عمَّن يطرح سؤاله بصيغة: "لماذا تـُدَرِّسون كتاب منة الرحمن؟!":
والجواب عن هذا السؤال يحتاج مِن السائل أن يبيِّن لنا وَجْهَ الغرابة التي مِن أجلها سأل هذا السؤال... أيَستغرِب مَبدأ تأليف الكتب؟! أم يَستغرب أن يقوم الشخص بتدريس كتابٍ مِن تأليفه؟! أم يستغرب أن يقوم التلاميذ بتدريس كتابٍ مِن تأليف شيخِهم؟! أم أنه لا يوافق على بعض الأفكار التي جاءت في الكتاب؟؟
في الواقع: إن كل الاحتمالات -باستثناء الاحتمال الأخير- تبقى أسئلةً غيرَ موضوعية، أو يبقى استغرابُ صاحبها في غير مَحَلـِّه؛ لأن هذا يَفعله المشتغِلون بالتعلُّم والتعليم والتدريس على مَرِّ العصور!
ولمزيد مِن توضيح الصورة دَعْنـَا نتتبع تاريخ التصنيف في العلوم عبر التاريخ، والذي يمكن تقسيمه إلى المراحل التالية:
- مرحلة ما قبل شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-: والتي شَهِدَتْ تدوينَ المؤلـَّفات في العلوم الرئيسة؛ مِن التفسير، وجمعِ كتب السُّنـَّة، وجمعِ روايات السيرة، وجمعِ الأحاديث المتعلِّقة بالعقائد، ثم ترتيبِ الفقه على المسائل.
- مرحلة شيخ الإسلام "ابن تيمية": والتي تَمَيَّزت بعِدَّة أمور على مستوى الأسلوب والموضوعات والترتيب؛ فأَكْثـَرَ مِن الاهتمام بالقضايا مَحَل البحث والجَدَل؛ مِن الكلام على الصفات والقدَر، وردِ البدع فيهما، كما ردَّ على العقلانيين والشيعة والصوفية، وأفرَدَ كثيرًا مِن المسائل بالبحث في رسائلَ أو فتاوىً اعتـُبِرَتْ بمنزلة الرسائل.
وأتى مِنْ بَعدِه تلميذُه "ابن القيم" -رحمه الله-، فـَشَارَكَ شيخَه في صياغة أفكاره، وفصَّل كثيرًا مما أَجْمَلـَهُ شيخُه، مستخدِمًا أسلوبَه الخاصَّ في الصياغة والجمع والترتيب. ولكنْ على أيَّة حال صارت هذه مدرسةً مستقلةً في التأليف، ونفع الله بكتب هذه المدرسة نفعًا عظيمًا.
- ثم جاءت مرحلة الصحوة الإسلامية في أوائل القرن العشرين: لتَشهَدَ مدرسةً جديدةً في الجمع والترتيب، كان أبرز رموزها "مُحِب الدين الخطيب"؛ الذي اعتنى بنشر رسائل شيخ الإسلام في القضايا المختلفة، والتي عن طريقها تـَشَكَّل العقل الصَحْوِيُّ في مصر، بل في المنطقة العربية مِن العالم الإسلامي، وأَثـْرَى الشيخُ مُحِبُّ الدينِ الخطيبُ المكتبةَ الإسلاميةَ برسائلَ مِن تأليفه هو؛ سار فيها على منوال شيخ الإسلام في رسائله، بَيْدَ أنه استخدم لغةً أقربَ إلى لغة مثقفي عصره؛ مما كان له أكبرُ الأثر في انتشار المنهج السلفي -بحمد الله-.
ومع انتشار الحركة الإسلامية بَرَزَ عددٌ كبيرٌ مِن المؤلفين الذين أعادوا صياغةَ كتب التراث بلُغة معاصرة، أو جمعوا شتاتَ مسائلَ لم تكن مجموعةً؛ كما حصل في قضية المرأة التي مَثـَّلت إحدى القضايا الملتهبة في "الصراع الإسلامي العَلماني"؛ مما دفع معظمَ هؤلاء الرموز إلى الكتابة فيها.
وكذلك قضايا شمولية الإسلام وصلاحيتِه لكل زمان ومكان، وقضايا الغزو الفِكْري، وغيرُها مِن القضايا.
- ثم جاءت مرحلة الصحوة الإسلامية المعاصرة في أواسط السبعينات: والتي استفادت مِن كل التراث السابق، لا سيما ما كان أقربَ عهدًا بزمانها، وقامت بتَدَارُسه وتدريسه، وفي هذه الأثناء -كما هي سنة الحياة- تكونت لدى رموزِ هذا الجيل رؤىً تأليفيةٌ؛ ما بين تجميعِ مُتَفـَرِّق أو تقريبِ صعب أو رَدٍّ على شبهة مستحدَثة، وكانت مِن أبرز الأمثلة على ذلك سلسةُ "عَودة الحجاب" للشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله-، كما رصد ذلك الشيخ "أسامة حافظ" في مَقالته "الأزهر... وعودة الحجاب" ـوالذي نشرته جريدة المصريون بتاريخ 19/10/2009م-:
"منذ قرابة الثلاثين عامًا وعندما كانت الصحوة الإسلامية في الجامعات في أَوْجِها اشتهر بين الشباب مِن الكتب التي تناولت مسألةَ الحجاب ثلاثةُ كتب: كتابُ "الحجاب" للأستاذ المَوْدُودَي، وكتابُ "حجاب المرأة المسلمة" لمُحَدِّث الشام الشيخ الألباني، وكتابٌ لابن تيمية في "تفسير سورة النور". وكان لهذه الكتب الثلاثة رَوَاجٌ واسعٌ بين شباب وشابات الصحوة؛ لِمَا لقضية لِباس المرأة ومَظهرِها الإسلاميِّ وسَمْتِها مِن اهتمام.
ثم كان أن كَتب الأستاذُ "البُوطِي" -عميد كلية الشريعة السورية الأسبق- كُتَيِّبًا شديدَ الجمال والإمتاعِ يُسمَّى "إلى كل فتاة تؤمن بالله"، ذاع صيته وأصبح منتشرًا بين بناتنا؛ لبساطته وجمالِ عرضه وصدقِ منطقه.
قد يكون هناك مَن كَتب في هذا الأمر غيرُهم، ولكنَّ هذه الكُتبَ الأربعةَ كانت الأكثرَ قبولاً وتأثيرًا بين الشباب، ثم... وبين هؤلاء الفطاحل وكتبِهم ظهَر كتابُ الأخ "محمد إسماعيل المُقـَدَّم": "عودة الحجاب" بأجزائه الثلاثة. الْحَقُّ أنه كان كتابًا فريدًا في بابه حاز قبولاً مُذهِلاً صرف أكثرَنا مِن شباب الصحوة بطوائفه المختلفة عن هذه الكتب -سالفة الذكر- إليه بما جمع مِن مزايا ما تناوله سابقوه بصورة سَلِسَة عَذبَة مُؤَصَّلةٍ تأصيلاً علميًّا رصينـًا.
كان "محمد إسماعيل" في ذلك الوقت شابًّا لا طاقة لِمِثله أن يزاحم مَن أشرنا إليهم...! ولكنَّ كتابَه هذا استطاع أن يَحفِرَ لنفسه مكانـًا بين كتب هؤلاء العلماء الفـَطاحل، بل ولا أبالغ إن قلتُ: إنه تفوق عليهم في مجال تفوقهم، وأصبح الكتاب قِبلةَ راغبي دراسة هذا الباب مِن أبواب العلم من شتي مناحيه واتجاهاته، مُشْبِعًا كلَّ التوجهات ومدارسِ البحث" اهـ.
ومِن المؤلـَّفات الجديدة التي حفرت لها مكانًا بارزًا في مجال الأصول كتابُ "الواضح" للدكتور "محمد سليمان الأشقر" -رحمه الله-؛ وهو كتاب استطاع أن يَجمع بين الوضوح والرَّصَانة اللذيْنِ استعصى الجمعُ بينهما على معظـَم مَن سَبَقه بالتصنيف في علم الأصول.
وفي علم السيرة كتابُ "الرحيق المختوم" للمُبَارَكْفـُورِي -رحمه الله-؛ وهو مِن المؤلفات الحديثة المُبَكِّرة نسبيًّا، ثم "وقفات تربوية مِن السيرة النبوية" للشيخ "أحمد فريد" -حفظه الله- في المرحلة المتأخرة، وللشيخ أيضًا في علم السلوك كتابُ "البحر الرائق"؛ والذي أغنى عن مختصرات "الإحياء" إغناءها هي عن "الإحياء".
وكذلك في مجال الأذكار "صحيح الكلم الطيب" للعلامة "الألباني" -رحمه الله- في المرحلة المبكِّرة من الصحوة، و"النصيحة" للشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله- في المرحلة المعاصرة منها.
وكذلك كان كتابُ "الضوابط الشرعية للألعاب الرياضية" للشيخ "سعيد عبد العظيم" -حفظه الله- تطبيقًا لقواعد أبواب المسابقة على الألعاب الرياضية المعروفة في زماننا، كما كان كتابُه "وعاشروهن بالمعروف" علاجًا لأحد أكبر المشاكل الاجتماعية خطرًا على مجتمَع المُلتزِمينَ الجُدُد؛ الذي أفرط كثيرٌ مِن أفراده في مطالبة مُعَاشريهم -لا سيما الزوجات- بالمثالية مع أنهم ليسوا كذلك مع أنفسهم!
والأمثلة على ذلك لا تحصى -والحمد لله رب العالمين-.
وعلى أَيَّة حال فإن المُؤَلـِّف متى كان يمثل إضافةً إلى ما كُتِبَ في بابه -مِن جهة التقريب، أو مِن جهة الجمع، أو مِن جهة الترتيب- فإنه يَعِيش ويُقـْبِل المشتغِلون بالعلم عليه، وأما ما كان على خلاف ذلك؛ فإنه يُولد ليَموت، وربما وُلِد مَيِّتـًا!
وإذا رجعنا إلى باب العقيدة -والذي ينتمي إليه كتابُ "منة الرحمن" موضعُ السؤال- وتتبعنا تاريخَ التصنيف فيه سنجد أن كتاباتِ ما قبل "ابن تيمية" غلَب عليها جَمْعُ أحاديثَ وآثارٍ متعلِّقةٍ بالعقائد كما جُمِعت أحاديثُ الأحكام، وقد تميَّز جَمْعُ المُصَنـِّفين في العقيدة عن جَمْعِ غيرهم مِن جامعي الكتب الستة وغيرِهم بأنهم اهتموا بالآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ لإثبات التزام السَّلَف في فـَهمهم للعقيدة بما ثبَت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ومِن هذه الكتب: "التوحيد" لابن خُزَيْمَة، و"أصول اعتقاد أهل السنة" للاَّلِكائي، و"السُّنـَّة" لابن أبي عاصم.
ومع هذا وُجِدَتْ رسائلُ لَخَّصَتْ اعتقاداتِ أهل السنة بطريقة نَثـْريَّة؛ مثل: "السُّنـَّة" للإمام أحمد، و"الرد على الزنادقة والجهمية" له، و"السنة" للبَرْبَهَارِي، وكذلك عقيدة الطـَّحَاوِي المعروفة بـ"الطحاوية"(1).
ثم جاء شيخ الإسلام "ابن تيمية" وكَتب مُقرِّرًا ومناقشًا ومناظرًا في ذات الوقت الذي يستدل فيه بما صح سندُه مما في كتب الحديث وكتبِ العقيدة المُسْنـَدَة.
ثم جاء شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" فجَمَعَ الأدلةَ المتعلقةَ بتوحيد الإلهيةِ وما يُعارضه مِن الشرك فيها بأنواعه: الأكبر والأصغر، وأودَعَها كتابَه "التوحيد"(2).
كما صنـَّف الشيخُ "حافظ حَكَمِي" كتابَه الرائعَ "معارج القـَبُول"؛ والذي جَمَعَ فيه مسائلَ العقيدة محاولاً استيفاءَ أبواب الإيمان الستة، ومُدَعِّمًا كلامَه بالأدلة مِن القرآن والسنة، ومُعتمِدًا على أصول كتب الحديث وعلى كتب العقيدة المسنـَدة. وكان استقصاءُ أدلة المسائل غرَضًا واضحًا له؛ بحيث لو قلتُ: إنه لم يَفـُتـْهُ منها شيءٌ لـَمَا كنتُ مُبالغـًا؛ مما دَفـَعَ المُعتنِينَ بتدريس العقيدة في أوساط الصحوة -لا سيما السلفيين- إلى الاعتماد عليه جنبًا إلى جنب مع "فتح المَجيد"(3)، وربما اعتمدوا على "شرح الطحاوية" لابن أبي العِزِّ الحَنَفِي.
بينما راجَ للمستويات الأقل كتابُ "أعلام السُّنـَّة المَنشورة في اعتقاد الفرقة الناجية المَنصورة" للشيخ "حافظ حَكَمِي" أيضًا؛ والذي اشتهر باسم: "200 سؤال وجواب في العقيدة"، ومعه كتاب "تطهير الجَنان والأركان عن دَرَن الشِّرك والكُفران" للشيخ "أحمد بن حَجَر آل بُوطـَامي".
وراجَ أيضًا كتاب "الإيمان" للدكتور "محمد نعيم ياسين" كبديل أكثر اختصارًا لمعارج القبول، بَيْدَ أن المنزلة التي احتلها كتابُ "محمد نعيم ياسين" قد نازَعَه فيها بقوة بعد ذلك مِن الكتب المعاصرة "الثمراتُ الزَّكية" للشيخ أحمد فريد، ومجموعة "العقيدة في ضوء الكتاب والسنة" للدكتور "عمر سليمان الأشقر"(4).
الخلاصة: إن طابورَ التصنيف مستمرٌّ مُتـَّصِلٌ في الأمة ما استمرَّ طلبُ العلم، وكُلُّ جِيل يُضيف إسهاماتِه؛ التي تدور -كما أسْلَفـْنا- حولَ تقريبِ صعب أو جَمْعِ مُشَتـَّت أو الرَّدِّ على ما استـُحدِثَ من بِدَع، وقد ضربنا لذلك أمثلةً في العلوم بصفة عامة وفي العقيدة بصفة خاصَّة.
وساهم الشيخُ "ياسر برهامي" في ذلك بشروح صوتية لكثير مِن كتب السابقين؛ لا سيما "فتح المَجيد" و"معارج القـَبول"، وبكتاباتٍ كان أبرزها كتاب "فـَضْل الغـَنِيِّ الحَمِيد"، وكتاب: "مِنـَّة الرحمن".
فأين موضِع الإنكار إذنْ؟!
أظن أنه لا يَصلح أن يكون التأليف مِن حيث المبدأ مَحَلاًّ للإنكار! ولكنْ يُمكن لقائل أن يقول: إنك قد ذكرتَ أنَّ كلَّ مؤلـَّف لابد أن يُمثـِّل إضافةً؛ فما هي الإضافةُ التي مَثـَّلَها كتابُ "منة الرحمن"؟؟
وعلى الرغم مِن أن الجواب عن هذا السؤال يأتي بطريقة عَمَليَّة، ومِن كيفية استقبال المشتغِلين بالعلم والدعوة واستفادتِهم مِن الكتاب؛ إلا أننا نـُجيب عن هذا السؤال بما يلي:
1- الإحالة إلى كتب "ابن تيمية" في أبواب الفِكْر والعقيدة كان كافيًّا لفترة مَا، ولكنه أصبح غيرَ مناسِب لأفهام الكثيرين مِن الشباب "حَديث الالتزام" المُقبِل على طلب العلم، بالإضافة إلى ظهور عِدَّة كتابات تنتمي لاتجاهات مختلِفة تُحاول تفسيرَ كلام "ابن تيمية" ليُوافِق مَناهجَها؛ ومنها تياراتٌ تَكفِيريَّة أو ذاتُ نَزَعاتٍ تَكفِيريَّة.
2- كُتـُبُ العقيدة التي كانت مُتداوَلةً منها ما هو مُطـَوَّلٌ نسبيًّا كـ"فتح المَجيد - معارج القـَبول - شرح الطـَّحَاوِيَّة"، ومنها ما هو مُختَصَرٌ لكنه غيرُ جامع كـ"تطهير الجَنان والأَرْكَان". وكما أن مَتـْنَ "معارج القبول" نَظـْمٌ لا يُناسِب هِمَمَ المبتدِئين في طلب العلم حديثـًا؛ فإن متنَ "الطحاوية" غيرُ مُرَتـَّب على المسائل، ويعود إلى المسألة الواحدة عِدَّة مَرَّات.
3- أَضِفْ إلى ذلك الحاجةَ الماسَّةَ إلى مَتنٍ صغيرِ الحَجْم مُرَتـَّبٍ على أبواب الإيمان مضافٍ إليه معالمُ في مناهج الاستدلال وفي السُّلـُوك؛ بحيث يُمَثـِّل عَرْضًا شاملاً للعناصر التي رأى كثيرٌ مِن السلفيين أنها كافيةٌ للدلالة على منهجهم حينما عَبَّرُوا عن أصولهم العِلمية لـ"الدعوة السلفية" بقولهم: "التوحيد - الاتباع - التزكية"(5) (6).
4- شَهِدَت كثيرٌ مِن الحركات الإسلامية ذاتِ الأَرْضِيَّة السَّلفيَّةِ استقطابًا حادًّا حول أيِّهما أولى بالمواجهة: مظاهر الشرك القديم -أو كما يسميه بعضُهم شركَ القـُبُور- أم مظاهر الشرك الحديث -أو كما يسميه بعضُهم شركَ القـُصُور-؟؟
وكلُّ فريق يَقرأ كتبَ السابقين قراءةً وَفـْقَ رؤيته... فكان العَرْضُ المتوازِن بين القضيتين في هذا المَتن بَيَانـًا لِمَا ينبغي أن يكون مِن الاهتمام بمواجهة كلِّ الانحرافات العَقـَدِيَّة؛ لا سيما ومظاهرُ شِرك القبور ما زالت تَملأ السَّهْل والوَادي، والعَلمانيون يَعملون بكل دَأب لِعَلْمَنَةِ الأمة، بل لِعَلْمَنَةِ الحركات الإسلامية نفسِها!
5- شَهِدَت "قضية التكفير" و"قضية العذر بالجهل" صراعًا جديدًا لم يكن مُبْرَزًا في المتون السابقة؛ فاحتاج الأمرُ إلى إبرازه في مَتن كهذا.
وإذا كان مِن البَدَهِيِّ أنَّ مؤلـِّفَ الكتاب يُخرجه للناس ثم ليس له أن يَسأل مَن لَمْ يَقرأه: لِمَ لَمْ تقرأه؟ ومَن لَمْ يدرسْه: لِمَ لَمْ تدرسْه؟ فإنه وبنفس دَرَجة البَدَاهَة: لا يَحِقُّ لسائل أن يسأل أحدًا: لِمَ دَرَّسْتَ ما كتبتَ؟ أو أن يسأل مَن اقتنـَع بهذا الكتاب نفسَ السؤال!
مع الأخذ في الاعتبار أن تَأثـُّر الطلاب بشيخهم أمرٌ لا مَفـَرَ منه، ولكنَّ الفـَرْقَ بين هذا القدر المَسموح به والحِزْبِيَّةِ والعَصَبِيَّةِ إنما يَكْمُنُ في الانتصار له على حَقٍّ كان أو على باطل.
كما يَكون في المبالغة في المَدح، وهو ما أهيب بإخواننا في كل مكان أن يتخلصوا مِن هذه الآفة الشيطانيَّة التي ألقى بها الشيطان بيننا؛ حتى صار الجميعُ يَتسابق في مَدح مَن يُحِبُّه أو مَن تعلَّمَ على يديه بصورة يَفتِن بها نفسَه وغيرَه، بل ويَفتِن بها المَمْدُوحَ ذاتَه؛ ثم سرعان ما تَنقلِب إلى مُبَاراة عَصَبِيَّة في المَدِيح؛ الذي سرعان ما يَنقلِب إلى مُبَاراة في ذَمِّ كُلِّ مَن عدا شيخه! وهي آفة تُعانِي منها الحركةُ الإسلامية يَنبغي أن يُسارع جميعُ المُخلِصينَ في علاجها؛ ويَكون العلاجُ ناجِعًا إذا نهى كلُّ شَيخٍ طلابَه عن الغـُلـُوِّ فيه، وذَكَّرَهم بفضائل غيرِه، وأما أن يَشتكيَ كُلُّ واحد مِن الآخرين؛ فلن يزيدَ هذا الطينُ إلا بـِلَّةً.
يَبقى سؤال آخر عن حجم الانتشار الكبير... مِن أين جاء؟!
والجواب: إنَّ ذلك راجعٌ لطبيعة الكتاب ومنهجِ تأليفه الذي أشَرْنا إليه، ولطبيعةِ المؤلـِّف وقربـِه مِن الشباب "حديث الالتزام"؛ حيث يُقدِّم لهم هو وتلامذتـُه هذا الكتابَ كَمَتنٍ مُقتَرَحٍ للتعَرُّف على معالم المنهج السلفي؛ مما جَعَلَ قِطاعًا عَريضًا مِن هذه الشَّريحة يَبحثون عنه وعن شروحه تِلقائيًّا.
يَبقى سؤال أخير يَتعلَّق ببعض ما ورد في هذا الكتاب؛ حيث يَعترض عليه بَعضُهم لا سيما في القضايا الخلافية الشائكة؛ التي مِن أبرزها:
- الحَاكِمِيَّة: حيث يريد الغـُلاة فيها مِن المؤلـِّف أن يُكَفـِّر أعيانَ الحُكَّام المُعاصرين، بينما يَنفِر المُفـَرِّطـُون مِن تَوصيف استبدال القانون الفرنسي بشريعة الإسلام في التشريع العام بأنه كُفرٌ أكبرُ، حتى وإن امتـُنِع عن تكفير المُعَيَّن مِمَّن يَأتي بذلك(7) لشُبهة الجهل والتأويل.
- ومسائل الإيمان والكفر: والتي يَنقسم الناس فيها في كل زمان ومكان إلى طـَرَفـَين وَوَسَط.
- ومسائل الولاء والبراء: والتي يُطالِب بَعضُهم بزيادة جُرْعَتِها، بينما يُطالِب بَعضُهم باختزالها أو حَذفِها!
وإذا كان الأمر كذلك فليُعلَم أن هذا الأمر لا يَتعلق بكتاب ولا بكاتب، وإنما يَتعلق بمَنهَج، وأن المَذكور في الكتاب في هذه القضايا هو -بإذن الله- مَنهجُ أهل السنة، وأما تَفصيل مُناقشة هذه القضايا؛ فهي مَوجودة -بحمد الله- في الشروح الصوتية للكتاب، وفي شَرحِه المَطبوع، وفي غيرِها مِن الكتب لعُلماء ودُعاة الدَّعوة السلفيَّة.
وإنما أرَدنا هنا فقط أن نـُنـَبِّهَ إلى أن "منة الرحمن" ما هو إلا مَتنٌ جَمَعَهُ صاحبُه؛ ليُيَسِّرَ به أمرَ تَدَارُسِ المَنهج السلفي -كما يَعتقده- على المبتدِئين في طلب العلم، وهو في ذلك لا يَختلِف عن أيِّ كتاب آخر.
وأما مَن يُخالِف في القضايا ذاتِها؛ فحوارنا معه خارج نطاق هذه المقالة. نسأل اللهَ -تعالى- أن يُؤَلـِّفَ بين قلوبنا على الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قام العلامة "ابن أبي العِزِّ الحنفي" فيما بَعد بشرح هذه العقيدة، واستفاد مُعظمَه مِن كلام شيخ الإسلام "ابن تيمية"، ولكنه أسْرَفَ في استخدام المَنطق؛ فصارت فيه صعوبةٌ تَفوق تلك المَوجودة في كتب "ابن تيمية" نفسِه.
هذا وقد حاول كثيرٌ مِن المُعاصرين تَخليصَه مِن تلك الصعوبة؛ فمنهم مَن اختصَره مع بَقاء صعوبته، ومنهم مَن خَلَّصَه مِن صعوبته ومِن فوائده أيضًا! بَيْدَ أن الشيخ البَرَّاك -حفظه الله- شَرَحَه شرحًا مُستقلاً سَلِسًا رائعًا.
(2) للكتاب شروحٌ كثيرة أشهرُها "فتح المَجيد" للشيخ "عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ" حَفيد المُؤَلـِّف، وما زال يَخرج في كل يوم شرحٌ جديد له، وكان مِن أجْوَدها شرحُ الشيخ "ابن عثيمين"؛ والذي اعتنى فيه ببعض ما أهمله الشيخ "عبد الرحمن بن حسن"؛ كشرح مسائل الباب، والاستطرادِ في الفوائد، والعنايةِ ببعض المسائل التي أثارت جَدَلاً للمُهتمِّين بتراث شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب"؛ كـ"مسألة العذر بالجهل". كما كتب الشيخ "صالح بن عبد العزيز آل الشيخ" شرحًا مختصرًا له.
وللشيخ "ياسر برهامي" أيضًا كتابُ "فضل الغني الحميد... تعليقات مُهمة على كتاب التوحيد"؛ وهو كتاب وَثيق الصِّلة بكتاب "فتح المَجيد"؛ حيث فـَصَّلَ في بعض القضايا التي أجْمَلَها "فتح المَجيد" بينما أجْمَلَ ما فصَّله؛ لا سيما قضايا: "الحكم بغير ما أنزل الله"، و"الولاء والبراء"، ومسألة "ما يَثبت به حُكْمُ الإسلام"، ومسألة "العُذر بالجَهل"، وقد قام الشيخ "أبو إدريس محمد عبد الفتاح" بالمَزج بينه وبين "فتح المجيد"، كما حَقـَّقَ أحاديثـَهما.
(3) عندما كان الشيخ "ياسر برهامي" يَتولَّى تدريسَ مادة العقيدة بـ"معهد الفـُرْقان لإعداد الدُّعاة" كان يَقوم بتدريس "فتح المجيد" ثم "معارج القبول"، وكان يَضُم إلى "فتح المجيد" "فضلَ الغني الحميد"؛ ليُفـَصِّل في قضايا: "الحكم بغير ما أنزل الله"، و"الولاء والبراء"، ومسألة "ما يَثبت به حُكْمُ الإسلام"، ومسألة "العُذر بالجَهل"، وغيرِها مِن المسائل التي ثـَار الجَدَل كثيرًا حَولَها في أوساط الصَّحْوَة، وكان هذا المَنهج يَستغرِق أربعَ سَنـَوات دِراسيَّة.
ويُمكن اعتبار "منة الرحمن" مَتنـًا شُروحُه هي هذه الكتب الثلاثة؛ يَعتمد عليه خِرِّيجُو المَعهَد وغيرُهم مِن طلبة العلم في التدريس للمبتدئين في طلب العلم، ولم يَكن الشيخ يَقوم بشرحه بنفسه؛ مُكتفيًا بالشرح المُسْهَب لهذه الكتب الثلاثة.
ثم لَمَّا صار الشيخُ يُدَرِّسُ العقيدةَ في مَسجده بدون الالتزام بالسنوات الأربع التي كانت تـُقيِّد طالبَ العلم قام بشرح "منة الرحمن"، وَوَجَدَ الفرصةَ سانِحةً لتدريس رسائلَ أُخَرَ كثيرةٍ؛ مثل: "الواسِطيَّة"، و"الفـُرْقان بَين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وغيرِها مِن الكتب؛ وهذا مما يَنفي تمامًا حدوثَ تَمَحْوُرٍ حول الكتاب، وأما انتشار تدريسه بين المبتدئين في طلب العلم؛ فله أسبابُه، وتأتي في سياقها -إن شاء الله-.
(4) ما ذكرتـُه مِن كتب إنما كان بناءً على ما شاع تدريسُه في بلادنا، وبالطبع توجد كثيرٌ مِن الكتب المُناظِرةِ لِمَا ذكَرْنا.
(5) الصياغة وإن كانت للشيخ "عبد الرحمن عبد الخالق" إلا أنها لاقت قـَبولاً عامًّا لدى جُمُوعِ السلفيينَ، واعتمدتـْها "الدعوة السلفية" في الإسكندرية كإطار مُناسِب لشرح قواعدِ المَنهج السلفي.
(6) للدكتور "محمد يُسري" رسالةٌ مُشابِهةٌ جديدةٌ جيدةٌ في هذا المِضْمَار بعنوان: "دُرَّة البَيان في أصول الإيمان" تَأنـَّق فيها في الصياغة والترتيب، وإن كان قد اقتصر فيها على أصول الإيمان ومناهجِ الاستدلال دون السلوك. وقال في مقدمته لها:
"ولَمَّا كان الأمر كذلك استخرتُ الله -تعالى- في ورقاتٍ تَحوي خلاصةً مفيدةً؛ لتكونَ بمَثابة مَتنٍ يَجمعُ أصولَ الإيمان ومهماتِ العقيدة، متضمنةٍ تنبيهاتٍ على ما يَنقصُها أو يَنقضُها، وإشاراتٍ إلى ما ارتبط بها مِن قضايا ومسائل، ومَا تعلـَّق بها -في هذا العصر- مِن نوازل...".
وقد قدَّم لها مَجموعةٌ مِن العلماء والدعاة؛ منهم الدكتور "عبد الله شاكر الجنيدي"؛ والذي قال في تقديمِه لها:
"وهذه الرسالة التي كُتبت بأسلوب بَلاغيٍّ جميل رسالةٌ قـَلَّ نظيرُها عند الأولين؛ ذلك أنَّ علماءنا -رحمهم الله- وإنْ كتبوا الكثيرَ إلا أنه لا يوجد مُختصَر جامعٌ ومفيدٌ بهذا العَرْض والأسلوب، احتوى على جُلِّ مسائل الاعتقاد؛ لِيُسَهِّلَ على القارئ حِفظـَه أو لِيَدْفـَعَه إلى كثرةِ النـَظـَر فيه ومراجعتِه...".
كما أن للدكتور "ناصر عبد الكَريم العَقـْل" رسالةً جديدة نسبيًّا أيضًا في هذا الباب بعنوان: "مُجْمَل أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة".
وليَكن مَعلومًا أن الأمر يَتسع لهذه الأطروحات ولغيرِها، ونحن لا نـُنكِر بل نـُرَحِّبُ بكلِّ إضافة بَنـَّاءةٍ، أما إذا اعترض علينا بعضُ مَن لا يَعرف تاريخَ نشر كُلٍّ مِن هذه الرسائل -وليس منهم مؤلـِّفوها الأفاضل بلا شك- بأنها كانت تَكْفي عن "منة الرحمن"؛ فالجواب أنه سابق عليها كلـِّها في تاريخ نَشره.
(7) العجيب أن مُعظـَمَ هؤلاء مِمَّن يُسقط أحكامَ الوِلايَة الشرعيَّة على الدولة المَدنيَّة، ويَغلو في طاعتها، ويرى أنَّ الاعتراضَ على أيِّ شيءٍ صادرٍ عن هيئاتها نوعٌ مِن الخروج على الحاكم! وكتاب "منة الرحمن" وكتاب "فضل الغني الحميد" كًلٌّ منهما حاصل على تصريح مِن الأزهر؛ أفـَلا يُعَدُّ الهجومُ عليهما خُروجًا؛ بناءً على مَنهجهم الذي جَعَلَ بعضَهم يَمتنع مِن الرَّدِّ على الأشَاعِرَة والصُوفِيَّة، ويَتبنـَّى القولَ بِحِلِّ فوائد البنوك رغم تصريحِه بأنه خلافُ مَذهَبِه! لِمَا ظـَنـَّهُ طاعةً واجبةً لِوَلِيِّ الأَمْر؟!!