الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 17 ديسمبر 2009 - 30 ذو الحجة 1430هـ

آداب العالِم مع طلابه

كتبه/ محمد سمير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أن وقفنا في مقال سابق على آداب العالم في نفسه؛ فها نحن نقف مع بعض آداب العالم مع طلابه.

1- غايات التعليم:

فيقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله -تعالى-، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق وخمود الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعضهم، وبركة دعائهم له، وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبينهم، وعداده في جملة مبلغي وحي الله -تعالى- وأحكامه؛ فإن تعليم العلم من أهم أمور الدين، وأعلى درجات المؤمنين؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

يقول ابن جماعة -رحمه الله-: "لعمرك ما هذا إلا منصب جسيم، وإن نيله لفوز عظيم، نعوذ بالله من قواطعه ومكدراته وموجبات حرمانه وفواته".

2- الترغيب في تحصيل العلم:

وعليه أن يرغِّبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله -تعالى- للعلماء من منازل الكرامات، وأنهم ورثة الأنبياء، وعلى منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء.

ويرغِّبه مع ذلك بالتدريج على ما يعين على تحصليه من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها، وغلبة الفكر، وتفريق الهم بسببها؛ فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا والإكثار منها والتأسف على فائتها أجمع لقلبه، وأروحُ لبدنه، وأشرف لنفسه، وأعلى لمكانته، وأقلُّ لحساده، وأجدر لحفظ العلم وازدياده.

3- إكرام الطالب والاعتناء بمصالحه:

من ذلك أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أكرمُ الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليَّ، لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت".

وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنوِّ، والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه، وجفاء لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف؛ قاصدًا بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة؛ فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتى بها، وراعى التدريج في التلطف بالأمور العرفية على الأوضاع الشرعية.

4- حسن التلطف في التفهيم:

وعليه أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه، وحسن التلطف في تفهيمه، لا سيما إذا كان أهلاً لذلك؛ لحسن أدبه وجودة طلبه، ويحرضه على طلب الفوائد، وحفظ النوادر والفرائد، ولا يدخر عنه من أنواع العلوم ما يسأله عنه وهو أهل له؛ لأن ذلك ربما يوحش الصدر، وينفر القلب، ويورث الوحشة.

5- النهي عن إلقاء ما لم يتأهل له:

وكذلك لا يُلقِي إليه ما لم يتأهل له؛ لأن ذلك يبدد ذهنه، ويفرق فهمه؛ فإن سأله الطالب شيئًا من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وأن منعه إياه منه لشفقة عليه ولطف به لا بخلاً، ثم يرغِّبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل؛ ليتأهل لذلك وغيره، وقد روي في تفسير "الرباني": أنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

6- التفهيم على قدر الأذهان:

وكذلك يحرص على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده، وتقريب المعنى له، من غير إكثارٍ لا يحتمله ذهنه، أو بسط لا يضبطه حفظه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره.

7- المطالبة بإعادة المحفوظات:

وذلك بأن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات، ويمتحن ضبطهم لما قدَّم لهم من القواعد المهمة والمسائل الغريبة، ويختبرهم بمسائل تُبنى على أصل قرره أو دليل ذكره.

8- الشكر لمن أصاب الجواب:

فمن رآه مصيبًا في الجواب، ولم يَخَفْ عليه شدة الإعجاب؛ شكره، وأثنى عليه بين أصحابه؛ ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا، ولم يَخَفْ نفوره؛ عنَّفـه على قصوره، وحرَّضه على علو الهمة ونيل المنزلة في طلب العلم، لا سيما إن كان ممن يزيده التعنيف نشاطـًا، والشكر انبساطـًا، ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهمًا راسخًا.

9- تعليم الاقتصاد في الاجتهاد:

وذلك إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تـَحمله طاقته، وخاف الشيخ ضجره؛ أوصاه بالرفق بنفسه، وذكَّره بقول القائل: "إِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبْقَى"، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة، والاقتصاد في الاجتهاد.

وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر، أو مبادئ ذلك؛ أمره بالراحة وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعليم ما لا يحتمله فهمه أو سنه، ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه.

10- حسن المساواة للطلبة:

فلا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء، مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل أو ديانة؛ فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر، وينفر القلب.

فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً وأشد اجتهادًا، أو أبلغ اجتهادًا، أو أحسن أدبًا، فأظهر إكرامه وتفضيله، وبيَّن أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب؛ فلا بأس بذلك؛ لأنه ينشط، ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات.

11- المراقبة في أحوال الطلبة جميعًا:

وذلك بأن يراقب أحوال الطلبة في: آدابهم، وهديهم، وأخلاقهم: باطنًا وظاهرًا؛ فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره، أو كثره كلام بغير توجيه ولا فائدة، أو حرص على كثرة الكلام، أو معاشرة من لا تليق عشرته، أو غير ذلك؛ عرَّض الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور من صدر منه، غير معرِّض به، ولا معيِّن له، فإن لم ينتهِ نهاه عن ذلك سرًّا، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها؛ فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا، ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره، ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده، والإعراض عنه إلى أن يرجع، ولا سيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته على ذلك.

12- تعاهد معاملاتهم الدنيوية ومساعدتهم:

وعليه كذلك أن يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضًا من إفشاء السلام، وحسن التخاطب في الكلام، والتحابب، والتعاون على البر والتقوى، وعلى ما هم بصدده، وبالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم لمعاملة الله -تعالى-؛ يعلمهم مصالح دنياهم لمعاملة الناس؛ لتكمل لهم فضيلة الحالتين.

وعليه أن يسعى في مصالح الطلبة، وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر عليه مِن جاه ومال عند قدرته على ذلك، وسلامة دينه، وعدم ضرورته؛ فإن الله -تعالى- في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله -تعالى- في حاجته، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه حسابه يوم القيامة، ولا سيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم الذي هو من أفضل القربات.

13- الاستفسار عن أحوال الغائبين، ومواساة المغتمين:

قال ابن جماعة -رحمه الله-: "وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائدًا عن العادة سأل عنه وعن أحواله، وعمن يتعلق به؛ فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل.

فإن كان مريضًا عاده، وإن كان في غمٍّ خفض عليه، وإن كان مسافرًا تفقَّد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم، وتعرَّض لحوائجهم، ووصلهم بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد إليه ودعا له".

قال أبو وداعة -رحمه الله-:

"كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أيامًا، فلما جئته؛ قال: أين كنت؟

قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها.

فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم، قال: هل أحدثت امرأة غيرها؟

فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟!

فقال إن أنا فعلت تفعل؟

قلت: نعم. ثم حمد الله -تعالى-، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزوجني على درهمين، أو قال: على ثلاثة.

قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب، وكنت صائمًا، فقدمت عشائي لأفطر، وكان خبزًا وزيتًا، وإذا الباب يقرع فقلت: من هذا؟

قال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه لم يُرَ منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقلت: وخرجت وإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد، هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟

قال: لا، أنت أحق مني أن تؤتى.

قلت: فما تأمرني؟

قال: رأيتك رجلاً عزبًا قد تزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم دفعها في الباب، فإذا هي أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله -تعالى-، وأعلمهم لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق الزوج". "وفيات الأعيان" (1/259) نقلاً عن "تذكرة السامع".

14- التواضع مع الطلبة:

وهو أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد سائل إذا قام بما يجب عليه من حقوق الله -تعالى- وحقوقه، ويخفض له جناحه، ويلين له جانبه؛ قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215)، وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ) (رواه مسلم).

ولله در القائل:

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا                  فـكـم تحتـها قوم هم منك أرفع

وإن كـنـت فـي عـز وجـاه ومـنعـةٍ                   فكم مات من قوم هم منك أنفع

وكما قال بعضهم:

تـواضـع تكن كالنجم لاح لناظـرٍ         على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تـك كـالـدخـان يرفـع نـفسه          إلى طـبقـات الجو وهو وضيع

فأخس ما في المرء يرفع نفسه         رفـيـع وبـيـن العالـمين وضيع

وأحسن في المرء يكسر نـفسه          وضـيـع وبـيـن العـالمين رفيع

يقول ابن جماعة -رحمه الله-: "وهذا لمطلق الناس، فكيف من له حق الصحبة، وحرمة التردد، وصدق التودد، وشرف الطلب؟!".

وعن الفضيل -رحمه الله- قال: "من تواضع لله؛ ورَّثه الله الحكمة".

15- المعاملة بطلاقة الوجه:

وكذلك ينبغي أن يترحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليه، ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم بعد رد سلامهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه، وظهور البشر، وحسن المودة، وإعلام المحبة، وإضمار الشفقة؛ لأن ذلك أشرح لصدره، وأطلق لوجهه، وأبسط لسؤاله، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه، ويظهر صلاحه.

وبالجملة:

فعلى العالِم أن يعرف أنه بقيامه بتلك الآداب مع طلابه ينتفع بذلك في الدنيا والآخرة؛ فإن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه، ولذلك كان سلفنا الصالحون الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده؛ لكفاه ذلك الطالب عند الله -تعالى-؛ فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).

ويعلق ابن جماعة -رحمه الله- على هذا الحديث تعليقًا قيمًا؛ فيقول: وأنا أقول إذا نظرت وجدت المعاني الثلاثة موجودة في معلم العلم:

أما الصدقة: فإقراؤه إياه العلم، وإفادته إياه، ألا ترى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- في المصلي وحده: (أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، أي بالصلاة معه؛ لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة.

وأما العلم المنتفع به: فظاهر؛ لأنه كان سببًا لإيصال ذلك العلم إلى كل من ينتفع به.

وأما الدعاء الصالح له: فالمعتاد المستقرأ على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم، وربما زاد الدعاء لهم أكثر من الوالدين، كما نترحم على الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم، وبعض أهل العلم يدعون لكل من يُذكر عنه شيء من العلم، وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند، فسبحان الله مَن اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه!! والله المستعان.