كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهو السلطان الكبير الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع ألب أرسلان، محمد بن السلطان جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن تُقاق بن سلجوق التركماني الغزي، من عظماء ملوك الإسلام وأبطالهم. (الذهبي - سير أعلام النبلاء)
وهو أحد ملوك دولة السلاجقة التي قامت فترة الخلافة العباسية، ولكنها كانت خاضعة لها، لم تخرج على دولة الخلافة وتنفرد بالملك دونها، وكانت تدين بالمذهب السني.
توليه الملك:
توفي طغرل بك (أحد أكبر ملوك دولة السلاجقة) سنة 445هـ دون أن يترك ولداً يخلفه على سدة الحكم، فشب صراع على الحكم حسمه ابن أخيه ألب أرسلان لصالحه بمعاونة وزيره النابِه نظام الملك المعروف بالذكاء وقوة النفوذ وسعة الحيلة وتنوع الثقافة.
وكانت سوابقُ ألب أرسلان تزكي اختياره للحكم، فهو قائد ماهر وفارس شجاع.
نشأ في خراسان، حيث كان والده "جغري بك" حاكماً عليها، وأسندت إليه قيادة الجيوش في سن مبكرة، فأظهر شجاعة نادرة في كل المعارك التي خاض غمارها، وبعد وفاة أبيه تولى هو إمارة خراسان خلفاً له.
بداية عهده:
لم تسلم الفترة الأولى من عهده من الفتن والثورات سواء من ولاته أو من بعض أمراء البيت الحاكم، فقضى على فتنة ابن عم أبيه "شهاب الدولة قتلمش" سنة 456هـ، وكانت فتنة هائلة كادت تقضي على ألب أرسلان، بعد أن استولى "قتلمش" على "الري" عاصمة الدولة، وأعلن نفسه سلطاناً، فجمع له ألب أرسلان، فقال له وزيره: أيها الملك لا تخف فإني قد استخدمت لك جنداً ليلياً يدعون لك، وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والصلحاء، فطابت نفسه.
وأحبط محاولة عمه "بيغو" للاستقلال بإقليم هراه سنة 457هـ.
وبعد سنوات من العمل الجاد نجح ألب أرسلان في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع حدودها، ودانت كل الأقاليم بالطاعة والولاء، وأخمدت الفتن والثورات.
سياسته في حكمه وأهدافه:
كان ألب أرسلان قائداً ماهراً مقداماً محباً للجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام، اتخذ سياسة خاصة تعتمد على:
أولاً: تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة إلى دولته.
ثانياً: نشر الإسلام في الدول المجاورة له الخاضعة لسلطان الدولة البيزنطية "الرومية".
ثالثاً: إسقاط الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالدولة الفاطمية.
رابعاً: توحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنية ونفوذ السلاجقة.
جهاده في سبيل الله:
ظل ألب أرسلان سبع سنوات تقريباً يتفقد أجزاء دولته المترامية الأطراف، ويسعى إلى تأمين الجبهة الداخلية لدولته، ولما اطمأن إلى استتباب الأمن، وتمكن السلاجقة من البلاد الخاضعة لهم؛ بدأ في نشر الإسلام في البلاد المجاورة له، حين أصبح دولته أكبر قوة في العالم الإسلامي سنة 463هـ.
فأعد جيشاً كبيراً واتجه نحو بلاد الأرمن وجورجيا فافتتحها، وضمها إلى مملكته وعمل على نشر الإسلام فيها، وأغار على شمال الشام، وحاصر الدولة المرداسية الشيعية في حلب، وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي بدلاً من الخلفية الفاطمي العبيدي سنة 462هـ.
ثم أرسل قائده إلى جنوب الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس من العبيديين "المسمَيْنَ الفاطميين".
وحاصر الرها، وكانت وقاعة تحت الحكم البيزنطي سنة 463هـ، وحاول فتحها بشتى الطرق فاستعصت عليه، فعقد مع أهلها صلحاً، وسار إلى حلب حتى يمنع أي محاولة التفاف من جانب الروم من جهة الجنوب، وعبر نهر الفرات سنة 463هـ (قال المأمون المؤرخ: لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان)، وقدم له جميع أمراء الجزيرة الولاء بالإضافة إلى أمراء الترك والديلم.
موقعة "ملاذ كرد" أعظم أعمال ألب أرسلان:
قام ألب أرسلان بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، فاتجه إلى أذربيجان جنوباً وغرباً لفتح بلاد الكرج والمنطلق المطلة على بلاد البيزنطيين، فهادن ملك الكرج ألب أرسلان، وصالحه على دفع الجزية، وصار بذلك الطريق مفتوحاً أمامه للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطر على قلب أرمينية، فتوغل في عمق الأناضول فوصل إلى نيكسار (شمال شرق تركيا) وعمورية ثم قونيه، ثم خونيه القريبة من بحر إيجه سنة 463هـ.
وكان لهذه الانتصارات أثر، فتحرك ملك الروم "رومانوس" في جمع كبير من الروم والروس والكرج والفرنجة وغيرهم من الشعوب النصرانية، حتى قدر ذلك بثلاثمائة ألف جندي أعدهم لملاقاة ألب أرسلان الذي ما إن علم باقتراب الروم ومن معهم حتى استعد للأمر واحتسب نفسه ومن معه، وكان في قلة من أصحابه لا تقارن بعدد الروم، قيل إنهم قرابة خمسة عشر ألفاً، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء المدد، وقال قولته المشهورة: "أنا أحتسب عند الله نفسي، وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي ويومي خير من أمسي".
ثم أرسل وفداً إلى ملك الروم يعرض عليه الصلح، ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض، واجتمع الجيشان يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ.
فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى بالعسكر، ودعا الله وابتهل وبكى وتضرع، وقال: أريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يُدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر.
وقال لجنوده: من أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحباً، فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يؤمر، فأنا اليوم واحد منم وغاز معكم، فقالوا: مهما فعلت تبعناك فيه، وأعناك عليه.
فبادر ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
ثم وقع الزحف بين الفريقين ونزل السلطان ألب أرسلان عن فرسه ومرغ وجهه في التراب، وأظهر الخضوع والبكاء لله، وأكثر من الدعاء، ثم ركب وحمل على الأعداء، وصدق المسلمون القتال، وصبروا وصابروا حتى زلزل الله الأعداء، وقذف الرعب في قلوبهم، ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم جموعاً كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه، أسره أحد غلمان المسلمين، فأحضره ذليلاً أمام السلطان؛ فعفى عنه، وقبل منه الفدية، وعلى أن يطلق كل أسير للمسلمين في بلاده، وكان هذا أول ملك للروم يأسره المسلمون.
وكانت هزيمة الروم في "ملاذ كرد" نقطة تحول في التاريخ البيزنطي، وكان من نتائجها القضاء على التحالف البيزنطي الفاطمي إلى غير ذلك من النتائج.
من صفاته -رحمه الله-:
قال ابن كثير في البداية والنهاية "كان عادلاً، سار في الناس سيرة حسنة كريماً رحيماً، شفوقاً على الرعية، رفيقاً على الفقراء، باراً بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله عليه، كثير الصدقات، يتصدق في كل رمضان بخمس عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة."
وزاد في الكامل: "وكان رحيم القلب، مقراً بأنعم الله عليه، وكان حريصاً على إقامة العدل في رعاياه وحفظ أموالهم وأعراضهم، بلغه أن غلاماً من غلمانه أخذ إزاراً لبعض التجار فصلبه، فارتدع سائر المماليك، وكتب إليه بعض السعاة في نظام الملك فاستدعاه وقال له: إن كان هذا صحيحاً فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن لم يكن صحيحاً فاغفر لهم زلتهم بمُهمٍ يشغلهم عن السعاية في الناس، وكان كثيراً ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم وأحكام الشريعة".
وفاته -رحمه الله-:
توفي السلطان ألب أرسلان -رحمه الله- سنة 465هـ في جمادى الآخرة وله أربعون سنة، قتله نصراني يقال له يوسف الخوارزمي.