الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 25 يناير 2009 - 28 محرم 1430هـ

أسئلة حول مقصود الإيمان عند مرجئة الفقهاء

السؤال:

هل من قال من أهل العلم إن أعمال الجوارح لا تدخل في مسمى الإيمان ألزم بقوله هذا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن كان كذلك فلِمَ لَمْ يقل بالزيادة والنقصان مع أنه يثبت عمل القلب فهل هو عنده أيضاً درجة واحدة؟

ما وجه الاستدلال بهذه الأحاديث على أن أعمال الجوارح تدخل في مسمى الإيمان

1- بني الإسلام على خمس.

2- إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق .

ما حجة من قال من الحنفية إن أعمال الجوارح لا تدخل في الإيمان؟ وما الرد على قوله؟ وهل يترتب على هذا خلاف حقيقي أم هو مجرد خلاف لفظي؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فمن يقول بأن أعمال الجوارح لا تدخل في مسمى الإيمان من مرجئة الفقهاء هم يقولون بأنه لا يزيد ولا ينقص وليس فقط ألزموا به، وهم يصرحون بأن المؤمنين في أصله سواء كما ذكره الطحاوي، قال الطحاوي في عقيدته: "والإيمان واحد وأهله في أصله سواء" انظر شرح الطحاوية وتعليق الشارح على ذلك (2/459)، ويرون أن أعمال القلوب التي هي أصل الإيمان لا زيادة فيها ولا نقصان، وإنما لوازمها هي التي تزيد وتنقص، فيرون كل زيادة على الأصل من اللوازم والثمرات لا تدخل في المسمى، والصحيح ما ذهب إليه ابن تيمية من أن الخلاف لفظي أو قريب منه مع أن الصحيح قول الجمهور.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (7/297): (ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة، ويقولون أيضاً بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار.

فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين بما جاء به الرسول، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج، والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أحداً منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام) أ.هـ وانظر (7/218،242،575).

وقال الذهبي وهو يترجم لحماد بن أبي سليمان: (أنه تحول مرجئاً إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون الإيمان إقرارٌ باللسان ويقين بالقلب، والنزاع على هذا لفظي -إن شاء الله-، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية) أ.هـ سير أعلام النبلاء (5/233) ط. الرسالة.

وانظر لمزيد بحث لهذه المسألة شرح الطحاوية (2/470) ط. دار الرسالة.

أما المسألة الثانية فالإسلام هو الدين، وقد جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأعمال منه، فالأعمال من الدين، والدين والإيمان شيء واحد، كما أنه قد ثبتت أحاديث مماثلة تسمى هذه الأعمال إيماناً، كحديث وفد عبد القيس (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم) متفق عليه، فالدين الإسلام والإيمان، والعملُ منه، ولتفصيل المسألة قال الحافظ ابن رجب -رحمه لله-: (فأما الإسلام فقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وهي منقسمة إلى عملٍ بدني كالصلاة والصوم، وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة.

وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار والغسل من الجنابة وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، وإنما ذكر ههنا أصول الإسلام التي ينبني الإسلام عليها، كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (بُني الإسلامُ على خَمْسٍ) في موضعه -إن شاء الله تعالى-.

وقوله في بعض الروايات: (فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: نَعَم) يدل على أن من كَمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلماً حقاً مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام، وفي خروجه بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في ترك بقية مباني الإسلام الخمس كما سنذكره في موضعه.

ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ).

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل النبي: أي الإسلام خير؟ قال: (أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتَقْرَأَ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِف).

وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) <رواه أبو عبيد في كتاب الإيمان(3)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة(405) والحاكم في المستدرك (1/21)، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا، والصوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة يستدل بها على الطريق، راجع تعليق الألباني على الحديث>.

وصح من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: (الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ الإِسْلامُ سَهْمٌ، وَالصَّلاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالصِّيَامُ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ) وخرجه البزار مرفوعاً، والموقوف أصح.

ورواه بعضهم عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرجه أبو يعلى الموصلي وغيره، والموقوف أصح قاله الدارقطني وغيره.

وقوله: (الإِسْلامُ سَهْمٌ) يعني الشهادتين، لأنهما عَلَم الإسلام، وبهما يصير الإنسان مسلماً.

ثم يقول: وأما الإيمان فقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله،والبعث بعد الموت،وتؤمن بالقدر خيره وشره).

وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع، وقال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(البقرة:285)، وقال -تعالى-: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)(البقرة:177)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(البقرة:3-4).

فإن قيل: فقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكاراً شديداً.

قيل: الأمر على ما ذكره، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)(الأنفال:2-4).

وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لوفد عبد القيس: (آَمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإيمانِ باللهِ وحدَه، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها لا إله إلا الله،وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، ولفظه لمسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها؛ لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته.

وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل -عليه السلام- عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر، دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي.

وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان، هل هما واحد أو هما مختلفان؟

وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف؛ فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر، فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق" أ.هـ (جامع العلوم والحكم شرح الحديث الثاني).

- أما حجة من قال من الحنفية إن أعمال الجوارح لا تدخل في الإيمان، فقد احتجوا بأشياء منها: أن الإيمان في اللغة هو التصديق، وأنه يوجب الترادف مطلقًا، وقد فَنَّد شيخُ الإسلام هذه الشبهة، انظر مجموع الفتاوى كتاب الإيمان (7/290)، وشرح الطحاوية(2/470).

وقد احتجوا أيضًا بعطف العمل على الإيمان في قوله -تعالى-: (إِلا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ)(العصر:3)،  قالوا: والعطف يقتضي المغايرة.

والجواب: أن المغايرة حاصلة بأن الإيمان أعم من العمل، ويجوز عطف الخاص على العام، قال شارح الطحاوية: "وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة،  فلا يكون العمل داخلا في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقا عن العمل عن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام, فالمطلق مستلزم للأعمال، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(الأنفال:2). (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)(الحجرات: 15). (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ)(المائدة:81). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، (لا تؤمنوا حتى تحابوا)، (من غشنا فليس منا)، (من حمل علينا السلاح فليس منا).

وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي فليس مثلنا! فليت شعري، فمن لم يغش يكون مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.

أما إذا عطف عليه العمل الصالح، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب:

أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءا منه، ولا بينهما تلازم، كقوله -تعالى-: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)(الأنعام: 1)، (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ)(آل عمران:3), وهذا هو الغالب.

ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله -تعالى-: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:42)، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(المائدة:92).

الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله -تعالى-: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)(البقرة:238)، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)(البقرة:98)، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ)(الأحزاب:7). وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلا في الأول، فيكون مذكورا مرتين, والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا، وإن كان داخلا فيه منفردا، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران.

الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله -تعالى-: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)(غافر:3). وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله:

فألفى قولَها كَذبا ومَيْنَا

ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله -تعالى-: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)(المائدة:48), والكلام على ذلك معروف في موضعه.

فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان، فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(البقرة:177) الآيات.

قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، والملائي، قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم، قال: جاء رجل إلى أبي ذر -رضي الله عنه-، فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)(البقرة:177) إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: "إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها"، وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب.

وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان, وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود.

وفي المسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان, ويؤيده حديث جبريل -عليه السلام-" أ.هـ <شرح الطحاوية (2/483-487) مختصرًا>.

وهناك مناقشات أخرى تراجع في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.

والحقيقة أن من قال منهم بدخول عصاة الموحدين النار الخلاف معهم قريب من اللفظي على ما بيناه من كلام شيخ الإسلام.