الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 11 سبتمبر 2006 - 18 شعبان 1427هـ

الأمين (2) يوم بدر

كتبه/ مصطفى دياب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنلتقي في هذا العدد مع صفحة جديدة من صفحات "أبي عبيدة بن الجراح" المشرقة، فقد عاش "أبو عبيدة" تجربة المسلمين القاسية في "مكة" منذ بدايتها إلى نهايتها، وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها، وآلامها وأحزانها ما لم يعانيه أتباع دين على ظهر الأرض، فثبت للابتلاء وصدق الله ورسوله في كل موقف، ولكن محنة أبي عبيدة يوم "بدر" فاقت في عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين... فإلى هناك.

يوم "بدر":

انطلق أبو عبيدة يوم "بدر" يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الموت، فحذره فرسان قريش، وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه، لكن رجلاً واحدًا منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه، فكان أبو عبيدة ينحرف عن طريقه ويتحاشى لقاءه، ولج الرجل في الهجوم، وأكثر أبو عبيدة من التنحي، وسد الرجل على أبي عبيدة المسالك، ووقف حائلاً بينه وبين قتال أعداء الله، فلما ضاق به ذرعًا؛ ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين، فخر الرجل صريعًا بين يديه.

لا تحاول -أيها القارئ الكريم- أن تخمن من يكون الرجل الصريع... ولربما يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو: "عبد الله" والد أبي عبيدة... نعم والد أبي عبيدة، لم يقتل أبو عبيدة أباه، وإنما قتل الشرك في شخص أبيه، وانتهت غزوة "بدر" بانتصار المسلمين انتصارًا ساحقًا، وهزيمة منكرة للمشركين، وشاع بين المسلمين أن أبا عبيدة قتل أباه المشرك، فقال أبو عبيدة "والله ما قتلته ولكن الله قتله" .

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (متفق عليه).

ونزل قول الله -تعالى- يقر عين الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح، قال -عز وجل-: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22).

لم يكن ذلك عجيبًا من أبي عبيدة، فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه، والأمانة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مبلغا طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله.

أمين الأمة:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (رواه البخاري)، روى محمد بن جعفر قال: قدم وفد من النصارى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا أبا القاسم، ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا؛ ليحكم بيننا في أشياء من أموالنا اختلفنا فيها، فإنكم عندنا معشر المسلمين مرضيون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين)، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: فرحت إلى صلاة الظهر مبكرا، وإني ما أحببت الإمارة حبي إياها يومئذ؛ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر، جعل ينظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له؛ ليراني، فلم يزل يقلب بصره فينا حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: (اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه). فقلت: ذهب بها أبو عبيدة.

أخي الحبيب، لم يكن أبو عبيدة -رضي الله عنه- في يوم من الأيام راغبًا في زعامة أو سلطان، لقد كان أمر الدنيا هينًا على أبي عبيدة، فلم يرغب في الإمارة، ولم يعمل لها، ولا يريد المنازعة في أمر لا يعود على المسلمين بخير ولا يتوقف عليه حكم.. لقد صغرت الدنيا في عينيه؛ فعظم في أعين الناس..

وإلى اللقاء، وفي العدد القادم -إن شاء الله- مع صفحة أخرى مشرقة من صفحات أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-

 تحليل وفوائد:

1- أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، قال تعالى:) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).

2- المبادرة.. المبادرة إلى أبواب الخير، قال عمر بن الخطاب "فرحت إلى صلاة الظهر مبكرًا، وإني ما أحببت الإمارة حبي إياها يومئذ؛ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت" يعني: القوي الأمين.

3- العمل لله بعيدًا عن الأضواء، فلم يكن أبو عبيدة في يوم من الأيام راغبًا في زعامة أو سلطان، ولكن كان حريصًا أن يكون عمله كله لله وحده.