كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن الأحاديث التي أولاها العلماء عناية كبيرة قديمًا وحديثًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة) متفق عليه.
والمتأمل في هذا الحديث سوف يكتشف بادي الرأي أن هذا الحديث يتكلم عن فضل التعبُّد بتسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى، وأنها لم تأت مجموعة في مكان واحد، لا في هذا الحديث ولا في غيره، ومن هنا فقد أدرك العلماء الحكمة من ذلك، وهي كالحكمة في عدم تعيين ليلة القدر ليجتهد الناس في عشر ليالٍ بدلاً من واحدة، وكذلك الأمر هنا: علم العلماء أن هذا الباب باب اجتهاد للعلماء يعملون فيه جهدهم.
وطبعا ليس المقصود بالاجتهاد أن يخترعوا لله أسماء وصفات، ولكن المقصود تتبع ما ذكر لله من أسماء في القرآن والسنة.
ومن هنا بحث العلماء مسألة الاشتقاق، وهي: هل يجب الالتزام بما ورد بصيغة الاسم، فيكون اسمًا لله وما ورد بصيغة الفعل فيكون صفة لا اسمًا؟ فمنهم من ذهب إلى عدم الاشتقاق، ومنهم من ذهب إلى جوازه.
فأما القائلون بعدم جواز الاشتقاق فمعظمهم لمَّا أراد أن يجمع الأسماء الحسنى لم يبلغ بها التسعة والتسعين، وهو ما أخذه عليهم القائلون بالاشتقاق؛ حيث علق الشرع فضلاً خاصًّا على التعبد لله بتسعة وتسعين اسمًا، مما يعني أن جمع هذا العدد من أسماء الله ممكن.
وأما الذين قالوا بجواز الاشتقاق فمنهم من ذهل عن أن الاشتقاق بمعنى تغيير صيغة الفعل إلى اسم الفاعل أو صيغة المبالغة مع إسناد ذلك إلى الفاعل وإن كانت صحيحة لغة، إلا أن هذا لا يتيح إغفال القيود الأخرى في الكلام، فوقع في خطأ بالغ، ومن أمثلة ذلك قوله -تعالى-: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(البقرة:15)، فلا يجوز لنا أن نقول: إن الله "يستهزئ" ونسكت، بل لا بد من تقييد ذلك بأنه يستهزئ بالمستهزئين، ولا يجوز بطبيعة الحال أن نقول: "إن الله مستهزئ" ونسكت، ولكن إن قيدناه بالمستهزئين فالراجح صحة ذلك.
وقد ورد ذلك المعنى بصيغة الفاعل في قوله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(النساء:142)، فالكلام ليس في الصيغة الصرفية بقدر ما هو في المعنى.
ولذلك اشتد نكير كثير من العلماء على من أورد "المستهزئ، والماكر، والزارع"، في أسماء الله، وإن بقي الاختلاف بينهم في الاشتقاق من الصفات الأخرى، بل معظم من تكلم في جمع الأسماء الحسنى استعمل الاشتقاق بصورة أو بأخرى ابتداءً من "الوليد بن مسلم" -رحمه الله- صاحب أشهر محاولة وأكثرها قبولاً لدى المؤلفين من بعده، ساعد في ذلك أنها رُويت مدرجة مع أصل الحديث، مما أغرى العلماء بشرحها، مع أن معظمهم قد نص على إدراجها، إلا أنهم وافقوه على اجتهاده في الأعم الأغلب منها.
وأما الذين ذهبوا إلى عدم جواز الاشتقاق فإنهم احتاجوا أيضًا إلى قيد مراعاة السياق الذي قال به المجوزون للاشتقاق؛ لورود الماكر والزارع في نصوص الشرع بصيغة اسم الفاعل.
هذا وقد تعاقب على محاولة جمع الأسماء الحسنى علماء اتفقوا على جملة من الأسماء، وهي التي وردت بصيغة الاسم متضمنة الكمال المطلق من كل وجه، ومنهم من اقتصر عليها وإن لم يجمع تسعة وتسعين اسمًا، ومنهم من ألحق بها أولى الأسماء بها مما ورد في الشرع، بل وإن لم يكن اسما في اصطلاح النحويين مثل "ذي الجلال والإكرام"، وهو من المعاني الثابتة جزمًا والتي أثنى الله على نفسه بها، والخلاف في تسميتها اسمًا ومن ثَمَّ إدخالها في عدد الأسماء المشار إليها في الحديث أمر وسع الأمة فيه الخلاف.
وكان يسع الدكتور "محمود عبد الرازق" أن يكون واحدًا من هؤلاء، وربما كان في بحثه إضافة ثرية في جمع الأسماء وشرحها وبيان صور التعبد بها، لاسيما وأنه لم يغب عنه -كما ذكر في مقدمة كتابه- جهود العلماء السابقين والمعاصرين واتفاقهم الضمني، بل الصريح على أن الأمر فيه مساحة من الاجتهاد.
إلا أن الدكتور أبى إلا أن يرفع الخلاف في المسألة، وهذا هو بيت الداء، ولا أظنه يخفى عليه أن المسائل الخلافية بين علماء الأمة المعتبرين لا يرفع الخلاف فيها إلا إجماع لاحق، لا بحث رجل مهما بلغت قوة هذا البحث وجزالته، ولا أدري هل رام الدكتور بحثًا يبلغ من القوة مبلغًا يقنع علماء الأمة قاطبة بأن هذه هي الأسماء المقصودة من الحديث؟!! هذا إذا قلنا بإمكان ضبط الإجماع في زماننا أصلاً، ثم إنه طالما لم يحصل الإجماع فستبقى المسألة خلافية.
لقد علق الدكتور الخلاف بين العلماء على عدم وجود ضوابط، وكان ينبغي عليه أن ينتبه إلى أن عدم إفصاح المجتهد عن قواعده لا يعني عدمها، ولكن على أية حال ففي إطار مشروعه الشخصي كان وضع الضوابط أولاً خطوة مطلوبة، ثم إنه وضع ضوابط كان منها رفضه للاشتقاق، وهذا مذهب يقول به بعض أهل العلم ولا حرج عليه إن ترجح ذلك لديه، ولكنه تجاوز ذلك إلى الادعاء بأنه إجماع السلف، مع أن الدكتور قد ذكر من صنفوا قبله في الأسماء، وهو أدرى بما في كتبهم من إثبات أسماء بالاشتقاق، ناهيك عما تعج به كتب ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- في تضاعيف كلامهم مما يفوق ذلك بكثير.
ومن جملة الضوابط التي وضعها أن يكون الاسم قد أريد به العلمية، ولا خلاف في أن الأسماء التي تحقق هذا الشرط هي من المتفق عليه، ولكن من اقتصر عليها قبل الدكتور محمود عبد الرازق لم يعد تسعة وتسعين اسمًا، إلا أن الدكتور أصر على أن يستكمل التسعة والتسعين فتسامح في تطبيق هذا الشرط على بعض الأسماء، منها الحديث المشهور عندما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسعر لهم، فقال: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني.
ومع أن السياق واضح جدًّا في عدم إرادة العلمية، بل المراد ذكر الأوصاف، فإن الدكتور قد اعتبر هذا الحديث مرادًا به العلمية، ومرر به هذه الأسماء جملة واحدة، بل لم يشترط ما اشترطه معظم العلماء قبله بلزوم الاقتران بين القابض والباسط -لأن القابض بمفرده يوهم النقص-؛ لأن هذا سوف يعكر عليه صفو قواعده.
وقد ذكر الدكتور أنه امتحن من استطاع الوصول إليه من المعاصرين ممن صنفوا في أسماء الله في اسم "المسعر"، ولماذا لم يدرجوه في كتاباتهم، فأفاد أنه لم يلقَ إجابة شافية، وذكر أنه كلم بعضهم في الهاتف فلعلهم أعرضوا عن المناقشات الهاتفية، وإلا فالتعليل واضح من أن هذا الوصف الوارد بصيغة اسم الفاعل لم ترد به العلمية، كما أنه ليس مدحًا بإطلاق، فمثله مثل الزارع لا يطلق إلا مقترنًا بمتعلقه، ومثل ذلك فقل على انتزاعه اسم "الطيب" من حديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) رواه مسلم.
وكل هذا كان يمكن احتماله لولا أن الدكتور قد اغتر بنتائج بحثه، فظن أن هناك ضوابط صارمة أخرجت تسعة وتسعين اسمًا بالتمام والكمال، مما يعني أنه بصدد فرصة ذهبية لإغلاق باب الخلاف في المسألة.
وكدَّر على صفو تلك الفكرة أن الدكتور بحكم سلفيته يعلم أن السلفيين لا يمكن أن يَنسبوا إلى السلف أنه قد فاتهم شيء قطعي كان ينبغي أن يجمعوا عليه، ولكنه تفرق بينهم حتى لا يوجد منهم واحد عبر التاريخ قد قال بالحق كله مجموعًا في هذا الباب بناءً على ما يراه الدكتور، وهنا تفتق ذهن الدكتور عن عذر يعتذر به عن السلف أنهم فاتهم عقيدة قطعية بهذا القدر من الوضوح الذي يدعيه الدكتور، وهو أنه لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمساعدة الحاسوب، وأن السلف لو كان معهم الحاسوب لوصلوا إلى ما وصل إليه الدكتور.
وهذه سقطة لا يجبرها إلا الرجوع التام عنها؛ فإن الدكتور من أدرى الناس بأن علماء السلف لم يقبلوا من الأشاعرة ما هو أفضل من هذا حينما زعموا أن السلف شغلهم الجهاد عن تدبر آيات الصفات، بل لم يقبلوا منهم الزعم بأن منهج السلف "أسلم"، وأن السلف لسلامة قلوبهم اختاروا الأسلم، واضطر من بعدهم إلى الخوض في التأويل والمعاني؛ لأن أي تجهيل للسلف في أمر من أمور الدين لا يمكن أن يقبل تحت أي ظرف من الظروف!! فضلاً أن كلام الدكتور ينقل التهمة من السلف إلى الشرع ذاته، فيكون الشرع قد أمر الأمة باعتقاد عقيدة تبقى مغيبة عنهم خمسة عشر قرنًا من الزمان.
ثم إن الدكتور قد نسي أن الخطوة الأولى عنده لم تكن الجمع، وإنما كانت وضع الضوابط والتي يراها قطعية ملزمة، وهذه الخطوة ليس للحاسوب أي دور فيها، فأي عذر للأمة في تركها الاتفاق على تلك القواعد التي يراها الدكتور قطعية؟
إنَّ الحاسوب إن أفاد فلن يفيد إلا في الجمع، ولكن بالتأمل في الأدلة التي استفاد منها الدكتور الأسماء، تجد أنه ليس شيئًا منها مما يفوت الحفاظ جمعه بلا حاسوب، لاسيما المتأخرين منهم.
ثم إن كان الدكتور يرى أن عذر الأمة في الجهل بهذه العقيدة القطعية هو عدم وجود الحاسوب فنحن نسأل بدورنا متى ارتفع هذا العذر: أهو من تاريخ معرفة البشرية بالحاسوب في منتصف القرن الماضي، أم منذ شيوع النوع الشخصي منه في الربع الأخير منه، أم من تاريخ اقتناء الدكتور للحاسوب؟؟!
ثم إن الدكتور ليس من المعنيين -فيما نعلم- بعلوم الحاسوب والتي بلغت من تشعبها الآن مبلغًا جعلها تفوق علوم الطب في عدد فروعها، بحيث يكون غاية آمال من تخصص في جانب منها أن يلم إلمامًا عامًّا بالجوانب الأخرى.
ومن خلال ما حكاه الدكتور في مقدمة كتابه عن دور الحاسوب في هذا البحث -واستخدامه ثلاثة حاسبات!!!- ومساعدة زوجته له ندرك أن الدكتور لم يستعن مثلاً بخبراء في مجال البرامج الخبيرة أو الذكاء الصناعي، ولا حتى برمجة الكائنات ليصمم برنامج بحث صرفي يعطيه الصور المختلفة للتصريف أو نحو ذلك، فهذا مما يجعل دور الحاسوب في بحث الدكتور كدوره في بحوث طلاب المدارس والجامعات.
ثم هب أن الدكتور باستخدام برامج البحث البدائية الموجودة في نظام تشغيل "الويندوز" أو حتى "اليونكس"، استطاع أن يحصر كل النصوص التي فيها ذكر الله، ونخلها جميعها، فيبقى أن الحاسب لم يقعد له قواعد، كما أنه لم يطبقها له، وحديث: (إن الله هو المسعر) من الشهرة بمكان، وكثير ممن نظر فيه قبل الدكتور لم يجدوا ضوابطهم منطبقة عليه، مع أن ضوابطهم كانت أيسر من ضوابط الدكتور.
ظهر الكتاب وكالعادة طارت الأسئلة، وأجبنا إجابات مختصرة فيها تخطئة الدكتور محمود عبد الرازق في تخطئته للأمة، فاتخذ منا هدفًاً لفترة طال أمدها، ونحن معرضون عن إعطاء الأمر أكبر من حجمه حتى لا يتسع الخرق على الراقع -كما يقولون-.
إلا أن الدكتور قرر هو ومجموعة ممن وافقه أن يحاربوا الدنيا بأسرها، وأن يقاضوا الأزهر والأوقاف، بل والمغنين الذين يغنون الأسماء الحسنى القديمة.
وكما كان الحاسب بريئًا من وضع القواعد، بريئًا من تطبيقها، بريئًا من تخطئة الأمة، فقد كان أكثر براءة من عدم حساب العواقب التي لا ندري كيف حسبها أصحاب ذلك الموقف!!
لو كانت المعارك القضائية يمكن أن تغير مناهج الأزهر فلماذا يترك هؤلاء الأزهر وهو يدرس عقيدة الأشاعرة في جميع مراحله العلمية على الرغم أن من علمائه من طالب بتدريس منهج السلف، منهم الشيخ "هراس" -رحمه الله- عميد كلية أصول الدين الأسبق؟!
ولو كانت المعارك القضائية يمكن أن تغير الأسماء المنقوشة على جدران مساجد الأوقاف فلماذا لا يطالبون بإزالة جميع هذه النقوش، ومن باب أولى إزالة القبور من المساجد مع وجود فتاوى لشيوخ كثيرين شغلوا كرسي الإفتاء في مصر سابقًا بضرورة إخراج القبور من المساجد؟!
وإذا كانت المعارك القضائية يمكن أن تسحب معها أغنية فلماذا السكوت عن الأغاني هابطِها وشعبيِّها وشبابيِّها؟!
ثم أين حساب العواقب في مردود ذلك على العوام الذين لن يتمكنوا إلا من سماع الخبر دون أن يعرفوا الخلاف في الأسماء الحسنى، وهل يجوز فيها الاشتقاق أم لا، والفرق بين المراد به العلمية والذي لم يراد به العلمية؟!
وما مدى وقع خبر أن الحاسوب قد اكتشف خطأ الأسماء التي كانت الأمة ترددها عبر خمسة عشر قرنًا من الزمان على المتابعين من غير المسلمين؟!
إن الحاسوب بريء من كل هذه التبعات، وإذا كان الدارس لعلوم الحاسب يكون أول ما يتعلمه أن الحاسب لا يستطيع أن يحل مسألة لا نعرف نحن حلها، وإنما غاية ما هنالك أن يكون أداة توفر الوقت والجهد في تنفيذ حل محدد لمشكلة محددة، وهذا لا يكون إلا إذا عرفنا نحن الحل، ثم استطعنا وضعه في إطار منطقي صارم، ثم تأتي مرحلة برمجة الحاسب وفق هذا الحل.
ونحن بدورنا نقول: "الحاسوب لا يرفعُ خلافاً، ولا يقعـِّدُ قاعدةً، ولا يقدِّرُ عاقبةً".
نسأل الله أن يهدينا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.