كتبه/ أحمد حرفوش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكر الله -تعالى- في سورة البقرة صفات الكافرين، بعد ذكر صفات المتقين ليظهر الفارق الواضح بين الصنفين، والتمييز بين أهل السعادة وأهل الشقاوة "وبضدها تتميز الأشياء".
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (البقرة: 6)، إن الذين جحدوا بآيات الله وكذَّبوا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-. (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) أي: يتساوى عندهم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي: سواءٌ أحذرتَهم يا رسول الله من عذاب الله وخوَّفتَهم منه أم لم تحذرهم. (لَا يُؤْمِنُونَ) أي: لا يصدِّقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن تكذيب قومه له. ثم بيَّن الله -تعالى- العِلَّة في سبب عدم الإيمان فقال: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان.
قال المفسرون: الختم التغطية والطبع، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ عَنْهَا مُخَلِّصٌ، كما قال تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) (النساء: 155).
(وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي: وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدًى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون؛ لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه.
قال أبو حيان: شبَّه الله تعالى قلوبهم لرفضها قبول الحقِّ، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن رؤية نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت -مع صحتها وقوة إدراكها- ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمُّح نوره. (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 6-7)، أي: ولهم في الآخرة عذاب شديد لا ينقطع، بسبب كفرهم وإجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.
ولما ذكر الله تعالى في أول السورة صفات المؤمنين، وأعقبها بذكر صفات الكافرين، ذكر هنا الصنف الثالث وهم المنافقون، الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، في ثلاث عشرة آية لينبِّه إلى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، وتوضيحًا لما تنطوي عليه نفوسهم من ظلمة الضلال والنفاق، وما يؤول إليه حالهم من الهلاك والدمار. وقد ذكر الله تعالى من أخبارهم وصفاتهم في سور أخرى من القرآن الكريم، لكننا هنا نتعرض لما ذُكر من خبرهم في سورة البقرة.
سبب النزول: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب؛ منهم: عبد الله بن أُبَي ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس؛ كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون: إنَّا لنجد في كتابنا نعتَه وصفتَه.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) أي: ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات. (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: وصدَّقنا بالبعث والنشور. (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة: 8)، أي: وما هم على الحقيقة بمصدِّقين ولا مؤمنين؛ لأنهم يقولون ذلك قولًا دون اعتقاد، وكلامًا دون تصديق. وتتوالى الآيات في إظهار حقيقتهم.
ونستكمل ذلك في المقال القادم -إن شاء الله-.