كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).
الفائدة السابعة عشرة:
قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ): دلَّ ذلك على خلق أفعال العباد، فالله الذي جعلهم أئمة ودعوة المؤمنين بأن يجعلهم وذرياتهم أئمة للمتقين؛ قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
فقرة العين بالأبناء والبنات العابدين لله -سبحانه وتعالى- الداعين إلى الله -عز وجل-؛ الذين يُقتدَى بهم في الخير، هي من صفات عباد الرحمن -سبحانه وتعالى-، وأخص عباد الرحمن رفعة في المنزلة عند الله: الأنبياء، وأخصهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فكان من حسن عاقبته التي قدَّرها الله -عز وجل- له في الدنيا غير ما أعدَّ له من حُسْن العاقبة في الآخرة أن أقر عينه بذريته وذريتهم، فكان إسحاق وإسماعيل كلاهما نبي في موضعه الذي هو فيه يدعو إلى الله -عز وجل-، ثم يعقوب -عليه الصلاة والسلام-، وكل ذلك في حياة إبراهيم -عليه السلام-؛ رأى ما تقر به عينه من اجتباء الله -سبحانه وتعالى- لذريته، وجعلهم أنبياء، وجعلهم أئمة يدعون إلى الخير.
وهذا يدل على قدرة الله وإرادته في أفعال العباد الاختيارية؛ لأن الإمامة في الدِّين بالدعوة إلى الله -عز وجل- والهداية بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وبفعل الخيرات وحسن عبادة الله -سبحانه وحده- لا شريك له؛ كل هذا من أفعال العباد الاختيارية التي امتن الله -سبحانه وتعالى- بها على إبراهيم وذريته كما قال إبراهيم في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (إبراهيم: 40)، فاستجاب الله دعاءه وجعلهم كذلك، أئمة يدعون إلى الله، يهدون بأمره ويفعلون الخيرات في أنفسهم؛ فهم يفعلون الخير ويعلِّمونه للناس ويدعونهم إليه، وهم في ذلك كله عابدون لله.
وكل ذلك من جَعْل الله -عز وجل- وتقديره وخلقه لأفعال العباد، وهي تقع بمشيئتهم التي خلقها الله -عز وجل- لهم، وهذا إيمان بالقضاء والقدر، وقد جعل الله -عز وجل- فرعون وملأه أئمة يدعون إلى النار، وقد وضع -سبحانه وتعالى- كل شيء في موضعه؛ فوضع العمل الصالح والقول الصالح عند مَن هو أهل له (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ووضع الظلم والكفر والفساد عند مَن هو أهل له؛ قال الله -عز وجل-: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58).
ولذلك كانت أفعال العباد مقسَّمة كتقسيم الأرزاق؛ بجعله ورزقه -سبحانه وتعالى-، وهو -عز وجل- يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث في الأرض الخبيثة: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: 26)، فالخبيثات من الأعمال والأقوال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال والأقوال، والطيبات من الأعمال والأقوال للطيبين من الناس والطيبون من الناس للأعمال والأقوال الطيبة، وكل ذلك بحكمته، وهو -عز وجل- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وحين مَنَّ الله -عز وجل- على عباده المؤمنين بالتوفيق والهداية، والاجتباء والإمامة في الدِّين، لم يظلم مَن لم يجعل فيهم ذلك؛ لأنه -عز وجل- يضع الأشياء في مواضعها، والعدل هو وضع الشيء في موضعه، ولا يلزم من ذلك المساواة؛ فلو أن صاحب أرض خبيثة بور لامه أحد، وقال له: "كيف لا تضع فيه البذر الطيب؟! فيقول: أنا أعلم أنها لا تنبت، وأن البذر الطيب إذا وُضِع فيها سيموت"، لم يكن ظالمًا؛ (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال: 23).
فلذلك يجب على الإنسان أن يؤمن بأن أفعاله وإرادته ومشيئته مخلوقة بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله -سبحانه وتعالى- وحده هو الذي يقدِّر المقادير: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: 53)، وهو -عز وجل- لا يظلم مثقال ذرة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40).
فبذلك ظهر اجتباء الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ولذريته، فهم أئمة كما أن إبراهيم إمام، وأما مَن كان بعد ذلك من ذرياتهم ولم يكن على طريقتهم فليس بمجتبى؛ ولذا قال -سبحانه وتعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
نسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بالصالحين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يوفقنا لذكره وشكره وحسن عبادته.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.