كتبه/ جمال فتح الله عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ: إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) (متفق عليه).
وهذا الحديث العظيم فيه تشبيه نبوي كريم لعَلاقة المسلم مع القرآن، وربما يستوقفنا ذلك الاصطلاح: "صاحب القرآن"، وكأن للمسلم صحبةً مع القرآن كصحبة الطفولة، وصحبة العمل، وصحبة الحي، إلخ.
وأصل الصحبة: هي تلك العلاقة الناشئة بين اثنين توحي بكثرة التواصل واللقاء والخَلْوةِ والتَّناجي، ومن شدة ملازمة أحدهما للآخر؛ صار كلُّ واحد منهم يَعرف مرادَ صاحبِه قبل أن يبوحَ به!
نتأمل هذا المعنى، ونحن نقرأ لفظ: "الصاحب" في سور القرآن: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) (الكهف: 37)، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15)، (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (النساء: 36)، (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) (يوسف: 39)، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ) (التوبة: 40).
وهنا حين نقول: "صاحب القرآن"، تَشعر مباشرةً بتلك الألفةِ بين المسلم والقرآن؛ فهو كثير التردد عليه، وكثير الزيارة له، وكثير المشورة له؛ إن أصابه همٌّ فزع إليه، أو لحِقته شدةٌ استعان به، أو غابت عنه فائدةٌ استنهلها منه؛ فالقرآن لصاحبه كالجِراب المملوء مِسكًا يفوح منه العطر كلما فَتَحَه.
صاحب القرآن هو التالي له والحافظ لآياته، والمتدبِّر لِما فيها، والعالم بمدلولاتها، والعامل بحدودها، وصاحب القرآن هو الملازم له؛ فلا يفارقه في صباح أو مساء، في رحلة أبدية لا نهاية لها، يرتقي به في درجات الهدى والنور والقُرْب.
وهنا سؤال: هل جرَّبتَ أن تعقِدَ صحبة مع القرآن؟
هل جربت أن تقيم صداقة بينك وبينه؟
إنه نِعْم الصاحب لصاحبه، والرفيق لرفيقه؛ يقف معك حين ينفضُّ الخلقُ عنك، ويرشدك إن أصابتك حيرة أو شكٌّ، ويثبِّتك إن ألمَّت بك شدة، ويشفيك إن أصابك داء، ويهديك إن أصابك تِيهٌ.
أقرب الأحباب سيفارق حبيبه؛ فالأب سيفارق، والأم ستفارق، والزوجة ستفارق، إلا القرآن، فهو الصاحب الوحيد الذي لا يفارق صاحبَه حتى بعد رحيله.
وتأمل معي بعض الآثار الواردة في فضل مَن صَاحَبَ القرآن: ففي صحيح مسلم: أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ -عز وجل-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ).
وفي الصحيحين: "كان القُرَّاءُ أصحابَ مجلس عمر ومشاورتِه؛ كُهُولًا كانوا أو شُبَّانًا".
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "إن من إجلال الله إكرامَ حامل القرآن".
وعند الإمام أحمد من رواية العباس -رضي الله عنه- قال: كنتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنَيْنٍ، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلةٍ له أهداها له الجُذامِيُّ، فلما ولَّى المسلمون، قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَبَّاسُ، نَادِ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، نَادِ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا صَيِّتًا، فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي ، عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا".
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سألتُ أبي عن حماد وعاصم، فقال: عاصمٌ أحبُّ إلينا؛ لأنه من أصحاب القرآن".
فما أروع تلك الصحبة بين القرآن وصاحبه!
قارن -أخي المبارك- بين صحبة القرآن وحال الجيل الأول من الصحابة والتابعين، وبين صحبة اليوم على وسائل التواصل (تويتر، فيسبوك، إنستجرام - إلخ)! والبعض يفتخر كثيرًا بعدد متابعيه وأصحابه على تلك الوسائل رغم أن نفعَهم له لا يتعدَّى الترويج لنشاطه وكلماته، ولا يخفى على كل عاقل مساوئ ما يترتب على تلك الصحبة من تمادٍ في الباطل، أو شيوع لفكر ضالٍّ، أو تبنٍّ لرأي سقيم.
كما أخرج الإمام أحمد في المسند أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان يقول: "وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا" يعني: عظُم.
فالسيادة الحقَّةُ حين تصاحب مَن ينفعك في كلِّ حين؛ في حِلِّك وتَرحالك، في حياتك ومماتك، في غناك وفقرك، في صحتك ومرضك.
فهنيئًا لك يا مَن اتخذت من القرآن قرينًا وصاحبًا ورفيقًا، وبشراك بما يسُرُّك؛ فإنك قد رافقت مَن لا ندامة على صحبته، ولا تأسُّفَ على ضياع العمر بجواره.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.