الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 31 أكتوبر 2024 - 28 ربيع الثاني 1446هـ

غزة رمز للعزة (21) إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية (3-3)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمما تعرضت له أيضًا دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل: بيان ما تعرضت له البنية التحتية في قطاع غزة بأكمله من تدمير غير مسبوق من خلال العدوان الغاشم، واستخدام القوة المفرطة الذي قامت به قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد المدنيين وضد أهداف مدنية في قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى.

حيث جاء في الدعوى: أنه في 16 نوفمبر 2023 حذَّر 15 من المقررين الخاصين للأمم المتحدة و21 عضوًا من مجموعات العمل التابعة للأمم المتحدة من إبادة جماعية قيد التنفيذ في غزة، مشيرين إلى أن مستوى الدمار الذي حدث (حتى ذلك الوقت) من الوحدات السكنية، وكذلك المستشفيات، والمدارس والجامعات، والشركات، ودور العبادة، والمقابر، والمخابز، وأنابيب المياه وشبكات الصرف الصحي، وشبكات الكهرباء، والمؤسسات الثقافية والترفيهية، إلى جانب مواصلة الهجمات المتواصلة على المنظومة الطبية الفلسطيني ونظام الرعاية الصحية، حيث لم تتبقَّ أي مستشفى تعمل بكامل طاقتها بما يهدد باستحالة استمرار الحياة في غزة.

لقد استخدمت إسرائيل في قصفها ضد غزة أسلحة ذات تأثيرية غير تمييزية، مما أدى إلى حصيلة قتلى هائلة وتدمير للبنية التحتية الحيوية في قطاع غزة، لم تدمر إسرائيل المنازل والبيوت والأبنية السكنية فقط بل دمرت شوارع وأحياء بأكملها؛ فضاحية (شجاعية) في مدينة غزة، التي كانت موطنًا لحوالي 110 ألف فلسطيني تبدو الآن كأرض قاحلة واسعة ممتدة بقدر ما تستطيع العين أن ترى، تم تدمير متاجرها ومدارسها وسوقها النابض بالحياة ومنازل العائلات وعيادات الأطباء وشوارعها التاريخية، ومسجد ابن عثمان وكل شيء كان يحافظ على الحياة الفلسطينية هناك. 

بالإضافة إلى العديد من مناطق أخرى في غزة قد شهدت مستوى مماثل من الدمار، بما في ذلك بيت حانون وبيت لاهيا ومدينة غزة القديمة والرمال ومخيم (نصيرات) للاجئين في الجنوب، فلم يعد هناك مكان فارغ للأشخاص يتخذوه مأوى حتى في الشوارع والمناطق المفتوحة الأخرى.

إن عدم اتخاذ التدابير الاحترازية لحماية المدنيين في الهجمات العسكرية الإسرائيلية، وعدم التوفيق والتوازن بين اختيار الأساليب والوسائل التي يستخدمها جيش الاحتلال وبين الالتزام بالحرص الواجب على حماية المدنيين والأعيان المدنية، أو على الأقل التقليل من الخسائر العرضية في أرواح المدنيين والأضرار التي تلحق بالأعيان المدنية في مناطق مكتظة بالسكان تشير إلى أن التدمير واسع النطاق هناك ربما تم اعتماده كتكتيك للحرب ضد الفلسطينيين في غزة، وأن قوات الاحتلال تتعمد اتباع سياسة عسكرية تم الاتفاق عليها رغم كونها تنتهك قوانين الحرب.

إن جيش الاحتلال نفذ -وينفذ- عمليات تدمير لِمَ ولا تقتضيها الضرورة العسكرية؛ لقد ألحقت إسرائيل الدمار والضرر خلال أول ثلاثة أشهر من العدوان بما يزيد عن 355 ألف منزل فلسطيني، وحولت -ولا تزال- قطاع غزة إلى أنقاض ومناطق منكوبة، تقتل وتدمر وتخلق ظروف تهدف إلى تصفية شعبها جسديا كمجموعة.

في جميع أنحاء قطاع غزة استهدفت إسرائيل البنية التحتية، وأسس الحياة الفلسطينية مخلفة وراءها عمدًا ظروف حياة محسوبة لإحداث الدمار الجسدي للشعب الفلسطيني، تم تدمير المستشفيات وأنظمة المياه والأراضي الزراعية والمخابز والمطاحن، لقد استهدفت إسرائيل أيضًا النظام المدني الأساسي في غزة، استهدفت قصر العدالة، المبنى الرئيسي للمحاكم الفلسطينية في غزة، الذي يضم المحكمة العليا الفلسطينية والمحكمة الدستورية ومحكمة الاستئناف ومحكمة البداية والمحكمة الإدارية ومحكمة الصلح؛ بالإضافة إلى أرشيف سجلات المحاكم وملفات تاريخية أخرى. 

كما ألحقت أضرارًا كبيرة بمجمع المجلس التشريعي الفلسطيني، ومبنى الأرشيف المركزي في مدينة غزة، الذي يحتوي على آلاف الوثائق التاريخية والسجلات الوطنية التي تعود لأكثر من 100 عام، والتي تشكل أرشيفًا أساسيًّا للتاريخ الفلسطيني؛ بالإضافة إلى السجلات الحديثة للتطور الحضري لمدينة غزة، كذلك دمرت إسرائيل الذاكرة الرسمية والسجلات للفلسطينيين في غزة من خلال تدمير الأرشيفات والمعالم في غزة، لمحو الحياة الشخصية والذكريات الخاصة بالتاريخ والمستقبل الفلسطيني من خلال التدمير المتعمد المحسوب للسجلات العائلية والصور الفوتوغرافية، بالإضافة إلى إبادة عائلات فلسطينية متعددة الأجيال بأكملها، إلى جانب قتل وتشويه وترويع جيل كامل من الأطفال؛ جاء في فيديو نشرته (الأونروا) قول أحد الفلسطينيين: (هذه كلها ذكرياتنا، حياتنا بـأكملها... الآن ذهب كل شيء، كل شيء تحول إلى رماد).

لقد تركت إسرائيل المكتبة العامة الرئيسية في مدينة غزة في حالة خراب، كما ألحقت الضرر والدمار لعدد لا يحصى من المكتبات ودور النشر، ومئات المرافق التعليمية؛ كما استهدفت جميع جامعات غزة الأربع، بما في ذلك الجامعة الإسلامية في غزة، وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في قطاع غزة، والتي خرجت أجيالا من الأطباء والمهندسين، لقد دمرت الحرم الجامعي لتعليم الأجيال القادمة من الفلسطينيين في غزة، كما قتلت إسرائيل الكثير من الأكاديميين الفلسطينيين البارزين، منهم: البروفيسور (سفيان طه) رئيس الجامعة الإسلامية، وهو فيزيائي معروف حائز على جوائز وكرسي اليونسكو لعلم الفلك والفيزياء الفلكية، وعلوم الفضاء في فلسطين، الذي قتل مع أفراد عائلته في ضربة جوية، والدكتور (أحمد حمدي أبو عبسة)، عميد قسم هندسة البرمجيات في جامعة فلسطين، الذي قتل بالرصاص على يد جنود إسرائيليين، وهو يبتعد بعد أن تم إطلاق سراحه بعد ثلاثة أيام من اختفاءه القسري، ومنهم: البروفيسور (محمد عيد شبير) أستاذ علم المناعة والفيروسات، ورئيس سابق للجامعة الإسلامية في غزة، والبروفيسور(رفعت العرير)، وهو أستاذ الأدب المقارن والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسلامية في غزة، قتل كلاهما من قبل إسرائيل مع أفراد من عائلاتهما، وقد كان البروفيسور العرير أحد الشعراء المعدودين، وهو من المؤسسين المشاركين للمشروع الشبابي الفلسطيني (نحن لسنا أرقاما).

لقد دمرت إسرائيل العديد من مراكز التعلم والثقافة الفلسطينية، بما في ذلك مسجد (الزفردمري)، ومركز المخطوطات والوثائق القديمة، المركز الثقافي الأرثوذكسي، متحف القرارة الثقافي، مركز غزة للثقافة والفنون، المركز الثقافي الاجتماعي العربي، جمعية الحكاوي للثقافة والفنون، ومتحف رفح، ومتحف غزة الجديد للتراث الفلسطيني، الذي كان يضم مئات القطع الثقافية والأثرية.

لقد دمرت إسرائيل كذلك ما يتعلق بالتاريخ القديم لغزة: حيث تم تدمير وإتلاف ثمانية مواقع؛ منها: الميناء القديم لغزة، المعروف باسم ميناء: (أنثيدون أو البلاخية)، وموقع أثري لمقبرة رومانية عمرها 2000 عام، وهو أثر مدرج في كل من قائمة التراث الإسلامي، والقائمة التمهيدية للتراث العالمي التابعة لليونسكو. وكذلك دمرت المدينة القديمة في غزة، بما في ذلك بيوتها التاريخية التي يبلغ عمرها نحو 150عامًا، والمساجد والكنائس والأسواق والمدارس بأنواعها. كما قامت أيضًا بتدمير التاريخ الأحدث لغزة، بما في ذلك مركز (رشاد الشوا) الثقافي، وموقع لاجتماع تاريخي بين الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) والرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) قبل 25 عامًا، ومركز ثقافي مهم للفلسطينيين في غزة بمسرحه ومكتبته وساحة فاعلياته، ودمرت كذلك إمكانيات غزة الأكاديمية والثقافية المستقبلية.

إلى جانب ما سبق تم تدمير وإضرار 352 مدرسة فلسطينية، وتم قتل 4037 طالبًا و209 معلمًا وموظفين تعليميين كانوا فيها، وتم إصابة 7259 طالبًا و619 معلمًا آخرين؛ كما دمرت إسرائيل وألحقت الضرر بحوالي 318 موقعًا دينيًّا مسلمًا ومسيحيًّا (نصرانيًّا)، كانت تتخذ للعبادة عبر أجيال، من بينها: المسجد العمري الكبير، وهو علامة بارزة في تاريخ غزة وهندستها المعمارية وتراثها الثقافي، وكان مكان للعبادة لأكثر من ألف عام، كما ألحق القصف الإسرائيلي أضرارًا بكنيسة القديس (برفيريوس)، والتي تأسست في عام 425 الميلادي، ويعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، إلى جانب كنيستين أخريين تعرضا لإطلاق النار المباشر عليهما، وتم استهداف مسيحيين (نصارى) قتلوا في ساحات الكنائس التي لجأوا إليها بإطلاق النار عليهم مباشرة.

هذا إلى جانب تدمير النصب التذكارية الفعلية لتاريخ وتراث الفلسطينيين في غزة؛ فضلًا عن تدمير الشعب الفلسطيني نفسه الذي يشكل هذا التراث، من خلال قتل الشخصيات العامة والمثقفين والمعلمين والصحفيين والإعلاميين، والأطباء، والصناع، والكتاب، ومديري وعمداء الجامعات، ورؤساء المستشفيات، والعلماء البارزين، واللغويين والكتاب والشعراء والفنانين، ومنها قتل أسطورة الفلسطينيين الشيف (مسعود محمد القطاطي)، والذي قتل في ضرب منزله في غارة جوية إسرائيلية في 3 نوفمبر 2023، والذي كان شعار متجره (دع الفقراء يأكلون)، وعرف واشتهر بتوزيعه الحلوى الفلسطينية الشعبية (الكنافة) على المعدمين، وهو ما أكسبه لقب (أبو الفقراء). 

كما قتلت (الشيماء سعيد) الطالبة التي حصلت على أعلى الدرجات في الامتحان النهائي للمدرسة الثانوية في فلسطين بأكملها، والتي قتلت مع أفراد عائلتها في هجوم على مخيم النصيرات للاجئين.

لقد شرعت قوات الاحتلال في رفع العلم الإسرائيلي فوق أنقاض المنازل والبلدات والمدن الفلسطينية المدمرة في غزة مدفوعة بنداءات متصاعدة من داخل الحكومة الإسرائيلية وخارجها تنادي بتسوية غزة المدمرة بالأرض تمهيدا لإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية عليها من جديد.

مطالب جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية:

استنادًا إلى ما ذكرته ووثقته جنوب إفريقيا في دعواها المقدمة للمحكمة الدولية؛ فإن جنوب إفريقيا تعتقد أن إسرائيل من خلال أجهزتها المعنية وأشخاصها والكيانات الأخرى التي تعمل بتوجيهاتها أو تحت سيطرتها في قطاع غزة قد انتهكت التزاماتها بموجب مواد اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وتأتي أوجه انتهاكاتها لمواد الاتفاقية من خلال أعمال التهديد بالإبادة الجماعية أو الأخذ بها أو تبنيها أو التغاضي عنها من قبل الحكومة الإسرائيلية وجيشها ضد الشعب الفلسطيني في غزة، شاملة ما يلي:

- محاولة ارتكاب الإبادة الجماعة، بما يخالف المادة الثالثة (د).

- ارتكاب الإبادة الجماعية، بما يخالف المادة الثالثة (أ).

- التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، بما يخالف المادة الثالثة (ب).

- الشراكة في ارتكاب الإبادة الجماعية، بما يخالف المادة الثالثة (هاء).

- الفشل في منع الإبادة الجماعية، بما يخالف المادة الأولى.

- الفشل في معاقبة ارتكاب الإبادة الجماعية، والتآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر. - والعلني على الإبادة الجماعية، ومحاولة الإبادة الجماعية، والشراكة في الإبادة الجماعية، بما يخالف المواد الأولى والثالثة والرابعة والسادسة.

- الفشل في سن التشريعات اللازمة لإعطاء تأثير لأحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، ووضع عقوبات فعالة للأشخاص المذنبين بالإبادة الجماعية والتآمر لارتكاب الإبادة الجماعية والتحريض على الإبادة الجماعية ومحاولة الإبادة الجماعية والشراكة في الإبادة الجماعية، بما يخالف المادة الخامسة.

- الفشل في السماح وعرقلة التحقيق بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل الهيئات الدولية المختصة أو بعثات تقصي الحقائق بشأن الأعمال الإبادية المرتكبة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة كالتزام ضروري ومكمل وفقا للمواد الأولى والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة.

وتطلب من المحكمة أن تحكم وتعلن وفقًا لذلك أن:

- أن إسرائيل خرقت -وتستمر في خرق- العمل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

- أنه يجب على إسرائيل أن توقف أي أعمال وتدابير تخالف تلك الالتزامات.

- ضمان معاقبة إسرائيل للأشخاص الذين يرتكبون الإبادة.

- الالتزام بجمع وحفظ الأدلة على أعمال الإبادة الجماعية وعدم إعاقتها مباشرة أو غير مباشرة.

- الالتزام بالتعويض لصالح الضحايا من الفلسطينيين.

- تقديم ضمانات وتعهدات بعدم تكرار انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية.

ووفقًا للمادة 41 من نظام المحكمة والمواد 73 و74 و75 من قواعد المحكمة تطلب جنوب إفريقيا من المحكمة تحديد إجراء -أو إجراءات- عاجلة مؤقتة، ممكنة وكاملة وكافية لحماية حقوق الفلسطينيين في غزة، الذين مازالوا معرضين لخطر جسيم ومباشر باستمرار أعمال الإبادة الجماعية المتزايدة ضدهم. فللفلسطينيين كمجموعة حقهم في الوجود وحقهم في الحماية الكاملة من أعمال الإبادة الجماعية ومخاطرها، ومن التآمر ضدهم لارتكاب الإبادة الجماعية، ومن التحريض العلني المباشر وغير المباشر على ارتكاب الإبادة الجماعية ضدهم، ومن محاولة الإبادة الجماعية لهم، ومن الشراكة ضدهم في أعمال الإبادة الجماعية.

وعملًا بالمادة 74 (4) من لائحة المحكمة تطلب جنوب إفريقيا من رئيس المحكمة أن يحمي الشعب الفلسطيني في غزة من خلال الوقف الفوري للهجمات العسكرية التي تشكل أو تؤدي إلى انتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية ريثما تعقد جلسة الاستماع العاجلة للدعوى المقامة ضدها أمام محكمة العدل الدولية، لتمكين أي أمر قد تصدره المحكمة بشأن طلب اتخاذ التدابير المؤقتة من أن يكون له آثاره المناسبة. 

ومن أجل تحقيق هذه الغاية ينبغي على المحكمة أمر إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أذى جسدي وعقلي خطير للفلسطينيين في غزة، والكف عن فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى تصفيتهم جسديًّا، ومنع ومعاقبة الإسرائيليين القائمين بالتحريض المباشر والفعلي على الإبادة الجماعية وإلغاء السياسات وكل الممارسات ذات الصلة، بما في ذلك ما يتعلق بتقييد المساعدات لقطاع غزة وإصدار توجيهات الإخلاء.

وتعد من سلطة المحكمة الدولية العليا تحديد إجراءات مؤقتة عندما يمكن أن يلحق ضررًا لا يمكن إصلاحه بالحقوق التي هي موضوع الإجراءات القضائية، أو عندما يمكن أن يترتب على التجاهل المزعوم لمثل هذه الحقوق عواقب لا يمكن إصلاحها، بمعنى وجود فعلي لخطر حقيقي -أو وشيك- يلحق ضررًا لا يمكن إصلاحه قبل أن تصدر المحكمة مستقبلًا حكمها النهائي في القضية. 

ولذلك جاء في دعوى جنوب إفريقيا أن هناك خطرًا واضحًا بالضرر الذي لا يمكن إصلاحه تجاه حقوق الفلسطينيين، ولحقوق جنوب إفريقيا الخاصة بموجب الالتزام بالعمل على تنفيذ اتفاقية منع الإبادة الجماعية، والإلحاح الشديد للوضع واضح ذاتيًّا: الفلسطينيون عانوا ويعانون من ضرر لا يمكن إصلاحه من الأعمال الإبادية التي ترتكبها إسرائيل بمخالفة المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، ومن انتهاكات إسرائيل الأخرى للاتفاقية، بما في ذلك فشلها في منع أو معاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، وأنه إذا ظلت هذه الانتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية دون رادع، فليس هناك فقط مجرد خطر بل هناك يقين من المزيد من الخسائر البشرية والممتلكات التي لا يمكن إصلاحها والإصابات الخطيرة وأزمة إنسانية متعمقة أكثر، كما ستتأثر بشكل خطير فرصة جمع وحفظ الأدلة لمرحلة الجوهر في الإجراءات إن لم تفقد تماما.

وقد جاء أيضًا في الدعوى مطالبة جنوب إفريقيا: بأنه يجب على إسرائيل تقديم تقرير إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر خلال أسبوع واحد اعتبارًا من تاريخ هذا الأمر، وبعد ذلك بفترات منتظمة، حتى يتم إصدار القرار النهائي في القضية من قبل المحكمة. (للاستزادة في هذا الموضوع: راجع النص العربي الكامل لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل العليا).

ما بين جهود جنوب إفريقيا وتعنت الولايات المتحدة:

لا يعد غريبًا على دولة مثل جنوب إفريقيا أن تقف في جانب شعب فلسطين تنصره بقوة؛ لأنها دولة عانت لعقود طويلة من الاضطهاد والعنصرية الذي مورس ضد سكانها الأصليين، من جانب الاستعمار الهولندي ثم من جانب الاستعمار البريطاني، ذاقت خلالها ألوانًا من العذاب والتحقير والتمييز العرقي حتى تمكنت بعد معاناة شديدة من استرداد حقوقها السليبة؛ ولهذا تقدمت جنوب إفريقيا بدعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي في هولندا في 29 ديسمبر 2023.

وقد لجأت جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية وليس إلى محكمة الجنايات الدولية رغم أن المحكمة الجنائية لها قدرة على تنفيذ أحكامها بينما أحكام محكمة العدل الدولية غير ملزمة التنفيذ؛ لأن محكمة الجنايات الدولية رفضت برئاسة مدعيها العام استلام دعوى جنوب إفريقيا، رافضة إدانة إسرائيل أو الإقرار بما ترتكبه من جرائم حرب، فكان اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والتي سيعد قرار إدانتها لإسرائيل المتوقع صدوره منها دليل إثبات دولي بأن ما ترتكبه إسرائيل هي جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة يجرمها القانون الدولي.

وقد أعلنت تركيا عبر وزير خارجيتها يوم 3 يناير 2204 عن تأييدها ومساندتها لدعوى جنوب إفريقيا، وانضمت للدعوى أيضا ماليزيا وكولومبيا وبوليفيا.

وقد قابل قادة إسرائيل التصرف الجريء من جنوب إفريقيا بنوع من الترقب والقلق من إمكانية صدور قرار يدين إسرائيل دوليًّا، وقامت إسرائيل باستنكار الأمر واستهجانه قبل النظر فيه كعادتها، بل واتهمت جنوب إفريقيا بمساندة منظمة إرهابية، أي منظمة حماس وبمعاداة السامية، وكالعادة سارعت الولايات المتحدة بتبني الدفاع عن ربيبتها إسرائيل، فزعمت أن الدعوى لا أساس لها من الصحة ولا تستند إلى حقائق! 

وبدأ التهديد والوعيد الأمريكي الإسرائيلي لقضاة المحكمة مسبقًا؛ لمنع صدور أي قرارات إدانة منهم. في الوقت الذي أعلنت فيه ألمانيا والنمسا انضمامهما للفريق القانوني الإسرائيلي أمام المحكمة.

جاء نظر الدعوى في يومين متتاليين (11 و12 يناير 2024) حيث استعرض الفريق القانوني لجنوب إفريقيا في اليوم الأول الوقائع الثابتة التي تؤكد قيام جيش الاحتلال بتعمد القتل العشوائي للمدنيين في قطاع غزة، وأن كمية القنابل والمتفجرات التي استخدمها جيش الاحتلال في العدوان كما وصفها المراقبون هي أكبر كمية من المتفجرات استخدمت في العصر الحديث، مع استخدام متفجرات مفرطة في القوة التدميرية في مناطق مكتظة بالسكان واستخدام القنابل الفسفورية المحرمة دوليًّا، وأن معظم الضحايا من الأطفال والنساء، كما تم منع دخول الغذاء والماء والوقود والمساعدات الطبية لمواطني غزة، وتم هدم منازلهم وتعرضوا للمبيت في العراء في البرد القارس. 

بينما طالب الفريق القانوني لإسرائيل برفض الدعوى لعدم اختصاص المحكمة بالنظر في الدعوى مدعيا عدم وجود عناصر الإبادة الجماعية، وأن ما قامت به إسرائيل في غزة كان دفاعًا عن النفس، هو بالطبع ما تكذبه الوقائع التي سبقت طوفان الأقصى في 7 أكتوبر من حصار وتعسف وقتل واعتقالات ومعاناة قاسية بحق الفلسطينيين في غزة.

وقد أصدرت المحكمة حكمًا مؤقتًا اعتبره البعض توافقيًّا يحرص على ألا يعطي الحق كله لطرف من الطرفين دون الآخر، إذ لم يتضمن قرارًا واضحًا وحازمًا بوقف إطلاق النار الفوري، وهو الطلب الأول لدعوى جنوب إفريقيا، لكن المحكمة طالبت إسرائيل باتخاذ كافة التدابير لمنع الإبادة الجماعية ضد المواطنين في غزة، مع تقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد تشير فيه إلى إجراءاتها في ذلك. وكالمعتاد رفضت إسرائيل قرار المحكمة بمجرد صدوره، وأعلن قادتها أنهم مستمرون في حربهم على غزة، وكذلك رفضتها الولايات المتحدة وزعمت أنه لا توجد شبهة جرائم إبادة تقوم بها إسرائيل في غزة.

محكمة العدل ينقصها العدل:

بعيدًا عن إشادة البعض بقرار المحكمة المؤقت، والذي يفيد بإمكانية أن تكون إسرائيل قد قامت بأعمال جرائم إبادة جماعية، وأنه مكسب للقضية الفلسطينية وقوف إسرائيل في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية ولأول مرة في تاريخها، لتواجه بتهمة الإبادة الجماعية التي طالما استند إليها اليهود ضد ألمانيا النازية، رغم أنه قد صدر ضد إسرائيل من قبل عشرات من قرارات الإدانة التي لم تنفذ، ولكن من العجيب أن تتحدث المحكمة عن شبهة قيام إسرائيل بجرائم إبادة ثم لا تطلب الوقف الفوري للحرب مما يفقدها مصداقيتها، ثم كيف تمنح المحكمة إسرائيل المعتدية الحق في مراقبة نفسها، والحق في أن تضع هي لنفسها إجراءاتها لمنع الإبادة الجماعية، وأن تتقدم خلال شهر بتقريرها بشأن التدابير التي اتخذتها في هذا الشأن، فهذا يعد قرارًا هزيلًا يعطي الجاني حق وضع إجراءات المراقبة لنفسه، وكتابة تقرير عنها خلال شهر، أي تترك له فيها الفرصة لاستكمال جرائمه ليظل الباب أمامه مفتوحًا لمواصلة عدوانه الغاشم لحين صدور الحكم النهائي والذي قد يستغرق شهورًا أو سنوات، ومع ذلك رفضت إسرائيل للقرار.

وبعد عدة أشهر جاء قرار المحكمة النهائي التوافقي لإرضاء كل الأطراف حيث وصت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار قرار باعتقال ومحاكمة كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه بتهمة الإبادة الجماعية، إلى جانب إصدار قرار اعتقال ومحاكمة مماثل لثلاثة من قادة حماس أي: أنها تساوي بين الجلاد والضحية!