كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??).
الفائدة التاسعة:
قوله -تعالى-: (إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) دليل على إنجاء الله -سبحانه- لعبادة المؤمنين الذين قاموا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العذاب العام الذي ينزل بالقوم الكافرين، وكذا الفاسقين المخالفين للرسل، كما قال -تعالى- في قصة أصحاب السبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف: 163-166).
فبيَّن مصير الفاسقين، وبيَّن مصير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وسَكَت عن الساكتين؛ ولذا اختلف فيهم: هل نجوا أم هلكوا؟
وقال الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: 116)؛ فالدعوة إلى الله والإعذار إليه لإقامة الحجة سبب للنجاة، وليس سببًا للضرر -كما يتصور البعض!-.
وقال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ . نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) (القمرة: 33-35).
فهذه الآية عامة وقاعدة كلية في نجاة الشاكرين؛ الذين يشكرون نعمة الله -سبحانه وتعالى- بالدِّين والطاعة، والإسلام والالتزام؛ فذلك كله من أعظم النعم التي يجب شكرها بالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينجي الله -عز وجل- مَن شكر هذه النعم مِن العقوبة التي ينزلها بالقوم المجرمين؛ فلا بد أن يحافظ الدعاة إلى الله على هذا الدور؛ شكرًا لنعمة الله عليهم، ومَن ترك الدعوة لم يكن شاكرًا لنعمة الله بالدين، وإنما تنزل الفتن التي تعم ولا تصيب الذين ظلموا خاصة إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 24، 25).
الفائدة العاشرة:
في قوله -تعالى-: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين، دليل على مصير امرأة لوط؛ أنها بقت مع الباقين من قومها الذين نزل بهم العذاب، ولم تخرج أصلًا من القرية، وليس كما ذكر بعض المفسرين أنها خرجت مع لوط وبناته فلما سمعت الوجبة -أي: صوت وقوع العذاب بقومها- التفتت إلى قومها، فقالت: واقوماه! فأصابها حجر فقتلها، بل الصحيح أنها لم تخرج أصلًا؛ لقوله -تعالى-: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 35، 36)، فلم يُخرِج -سبحانه- إلا المؤمنين، وهي لم تكن مؤمنة، بل كافرة خائنة لزوجها؛ خيانة عقيدة بموالاة قومها، ورضاها بما هم عليه، كما قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: 10).
فهي إذًا لم تخرج، والاستثناء في قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) (هود: 81)، هو من الإسراء بأهله، فلم تخرج ضمنهم، وليس من الالتفات، وظاهر القرآن أنها أصابها كل ما أصابهم مِن جعل عالي القرية سافلها، والمطر من سجيل منضود، والصيحة كما قال -تعالى-: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر: 73).
وخروجها مع لوط يجعلها خارج هذه الأمور إلا الحجارة، ومصير امرأة لوط مما يُتعجب منه ومن حالها؛ فإنها والت قومها، وهي لم تنتفع بشيء من فاحشتهم وانحرافهم؛ فهي امرأة ضمن النساء المتروكات، قال الله -عز وجل- عن لوط -عليه السلام-: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء: 165، 166).
وهي عجوز لا تشتهي ولا تُشتَهى، وكانت قبل ذلك على الطبيعة والفطرة الإنسانية إذ قد أنجبت بنات لوط من لوط، ثم انحرفت بالتقليد الأعمى والطاعة الجاهلية لقومها، والاتباع على الباطل لهم، وهذا هو الركون إلى الظالمين بالرضا والمتابعة، وإن لم يكن بالفعل، فمَن رضيَ بالكفر كَفَر، ومَن رضي بالفواحش والشذوذ أخذ عقوبتها عند الله وإن لم يفعلها، ومن أحب قومًا حُشِر معهم، والمرء مع من أحب يوم القيامة.
فالواجب على المسلم أن يبغض الكفار والفسقة على كفرهم وفسقهم، كما قال لوط -عليه السلام-: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) (الشعراء: 168)، أي: من المبغضين؛ حذرًا من أن يصيبهم ما أصابهم، فالموالاة مستوجبة لنفس المصير، فمَن والى اللهَ ورسوله والمؤمنين كان معهم، ومن والى أعداء الدِّين كان معهم.
ونسأل الله أن ينجينا والمسلمين من كلِّ سوء.